مَحطةُ العَمَالِقة... مرسيليا وكتّابها - بوابة الكويت

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مَحطةُ العَمَالِقة... مرسيليا وكتّابها - بوابة الكويت, اليوم الاثنين 7 يوليو 2025 12:13 صباحاً

بوابة الكويت - مرسيليا، نسيج وحدها في الخريطة الفرنسية. موزعة بين البحر والسماء. مصنوعة بتراكمٍ هائلٍ من البراعة التي تظهر في الشوارع الضيقة المصقولة بالحجارة، وبالقصص التي تهمس بها الرياح المالحة للبحر المفتوح. بالنسبة إلى أولئك الذين عبروها، كانت لديها دائماً القدرة على إيقاظ أحلام غير متوقعة. يشعر المرء بتغير ما في داخله بمجرد أن تطأ قدماه أرصفتها النابضة بالحياة. يبدو الأمر كما لو أن كل موجة جاءت لتضرب الأرصفة كانت تهمس: "هنا تبدأ المغامرة".  بالنسبة إلى الكتاب والشعراء، لم تكن مرسيليا مجرد محطة توقف؛ لقد كانت بمثابة باب سحري يتيح الوصول إلى عوالم غير مرئية، وأحلام مدفونة تحت السطح الخشن للحياة اليومية. ولفكّ هذه الأحجية، يحاول ريمي دوشين، في كتابه "محطة العمالقة: مرسيليا والكتّاب، 1830-1900"، أن يقتفي أثر طائفةٍ من أعلام الأدب الذين جاؤوا عاصمة الجنوب الفرنسي بحثاً عن ذلك السّحر.

جاء معظم عمالقة الأدب في القرن التاسع عشر  إلى مرسيليا مدفوعين بأحلامهم. الحظ والحب وروح المغامرة، والبحث عن الأساطير الشرقية، حيث تضافرت رغبات كثيرة في الإبحار نحو الجنوب واكتشاف آفاق جديدة. كان ستاندال الذي كان لا يزال مجرد هنري بيلي الشاب، أول من انطلق في السعي وراء الحب والثروة؛ لن يجد في المدينة سوى خيبة الأمل العاطفية والصعوبات المالية. وبعده سيأتي الجميع: العملاق أونوريه دي بلزاك، وألكسندر دوما، وجيرار دي نرفال، وفيكتور هوغو، وفلوبير، وإيميل وزولا، وموباسان. كل واحد منهم مع خياله، وكل واحد مع أفكاره، وكل واحد مع مفاجآته الجيدة حيناً وحظه العاثر أحياناً. كانت مرسيليا في القرن التاسع عشر مدينة في طور التوسع. كبوابة للشرق ومفترق طرق تجاري، اجتذبت سكاناً متنوعين وأصبحت مكاناً لا بد منه للمسافرين والتجار والفنانين. كما شهدت تحولات كبيرة بسبب الثورة الصناعية، مع وصول سكك الحديد وتوسيع الميناء. جعل هذا النشاط الاقتصادي والثقافي مرسيليا موضوعاً مثيراً للاهتمام للكتاب، الذين رأوا فيها نموذجاً مصغراً للحداثة والغموض، فضلاً عن كونها تتميز بالتعايش بين مجتمعات مختلفة (الإيطاليين، واليونانيين، والأرمن). وهو ما لمسه بقوةٍ ليو تولستوي في زيارته المدينة عام 1860. وقد أثار هذا التنوع الثقافي اهتمام الأدباء الذين شاهدوا فيها نموذجاً مصغراً للعالم ومكاناً للتحرّر من سلطان المركز الباريسي، فغالباً ما نعثر في ما كتبوه على مديح هذا التناقض بين النظام الباريسي والفوضى المتوسطية في مرسيليا. من ذلك ما تركه فيكتور هوغو في دفتر ملاحظاته: "مرسيليا هي ضوء فرنسا المنعكس نحو المجهول". فالمدينة عبارة عن فانوس معلقٍ بين عالمين، يضيء الغرب المألوف والشرق الغامض.

 

غلاف الكتاب.

 

يبدو أكثر فصول الكتاب ثراءً وقرباً للقارئ العربي فصله الرابع "الرحلة إلى الشرق"، والذي يدرس فيه الكاتب أحد الموضوعات المركزية في كتابه وهو الدور الذي لعبته المدينة في الوصل بين الشرق والغرب. بفضل مينائها، تعتبر مرسيليا بمثابة نافذة على أماكن أخرى، ومكان يمكن من خلاله إلقاء نظرة خاطفة على أسرار الشرق أو المستعمرات في ذلك الوقت. وقد شكلت منطلقاً للكتاب والأدباء، لتغذية تأملاتهم الاستشراقية. لذلك يتابع دوشين رحلة جيرارد دي نيرفال إلى مصر، والتي بدأت من محطة مرسيليا وانتهت في المحطة نفسها بعد ثماني سنواتٍ، زار فيها القاهرة والإسكندرية وبيروت وقيسارية وتعلم اللغة العربية. والتقى كلوت بك الشهير  في نيسان/ أبريل 1843، إذ لم يكن في وسعه أن يفوت الجلوس بين يدي هذا الطبيب الذي ينحدر من مرسيليا، والذي اكتسب ثقة محمد علي باشا، ونظم الخدمات الصحية وأنشأ مدرسة القاهرة للطب. وكتب عن مصر كتابه "لمحة عامة إلى مصر". وعند عودته إلى مدينته الأم سيرتبط بصداقة قوية مع فلوبير، الذي جاء مرسيليا ليتوقف فيها طويلاً قبل أن يغادرها نحو اكتشاف البحر الأبيض المتوسط.

وفي الفصل نفسه يقتفي الكاتب أثر الشاعر تيوفيل غوتيه، الذي كان واحداً من أوائل الأدباء الذين زاروا الجزائر، بعد استعمارها، مع صديقه نويل بارفيه، بفضل منحة ديبلوماسية أدبية سمحت له بتحقيق جزء من حلمه بالشرق. وقد رافق المارشال بيجو، الحاكم العسكري الفرنسي للجزائر،  في رحلته إلى بلد القبائل في صيف عام 1845. كانت هذه الرحلة الأولى إلى الجنوب، قد انطلقت من مرسيليا بعد مقامٍ طويلٍ لغوتيه فيها وانبهاره بروح الشرق من خلال مخالطة عمال الميناء والتجار. ومن مرسيليا التي أقام فيها وتبرم من هوامشها الفقيرة انطلق غي دي موباسان، في رحلة طويلةٍ إلى تونس في عام 1887. أين سيكتب عن رحلاته إلى مدن البحر الأبيض المتوسط. في عام 1881، أصبحت تونس مستعمرة فرنسية، وهو الوضع الذي أثار فضول موباسان، ولمراقبة تأثيرات الوجود الفرنسي، شرع منذ عام 1887 في رحلة بالسفينة قادته إلى القيروان حيث أخذته المدينة الإسلامية القديمة بسحرها. لكن مقامه في مرسيليا كان لافتاً.

في خاتمة كتابه يشير ريمي دوشين إلى أن موكب العمالقة في القرن التاسع عشر في  مرسيليا انتهى إلى سوء فهم غريب اسمه آرثر رامبو. الشاعر الذي ما زال موثراً بقوةٍ في الشعر العالمي، والذي انتهت حياته القصيرة في مرسيليا في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1891، بعد عودته من عدن، بعد إقامته في المستشفى الإنكليزي في المدينة اليمنية  الساحرة.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق