جبران يتكلّم بلسان الروح: قراءة متجددة في كتاب النبي - بوابة الكويت

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
جبران يتكلّم بلسان الروح: قراءة متجددة في كتاب النبي - بوابة الكويت, اليوم الاثنين 7 يوليو 2025 02:03 مساءً

بوابة الكويت - فاروق غانم خداج
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني

في رحاب الأدب العربي الحديث، يظلّ "النبي" لجبران خليل جبران شاهداً على عبقرية فريدة لا تزال تتوهّج رغم تعاقب الأجيال. هو ليس مجرد كتاب يُقرأ، بل نصٌّ يتكلم من أعماق الروح، وينقل القارئ إلى مساحة تتجاوز الزمن واللغة، نحو حوار داخلي مع الذات والحياة والكون.

يطلّ علينا جبران من خلال شخصية "المصطفى"، ذلك الحكيم المتأهب للرحيل، في لحظة تفيض بالرؤية والحنين. ومن أعلى تلة الوداع، يخاطب أهل المدينة، لا بصيغة الأمر أو التعليم، بل بروح العارف الذي ذاق المعنى، وبات لسانًا للروح لا يُكذّب جوهره. في هذا المشهد، تتجلّى بنية شبيهة بعظات الإنجيل: صوت واحد يخاطب القلوب بحكمةٍ لا تُفرض، بل تُوقظ.

حديثه عن الحب يحمل نفَسًا إنجيليًا شفافًا، حين يقول: "عندما يناديك الحب فاتبعه، وإن كانت دروبه وعرة ومليئة بالشوك." في هذا النداء نسمع صدى المحبة التي تُطهّر، وتفتح طريقًا شائكًا نحو النمو الداخلي، تمامًا كما في تعاليم المسيح التي تربط الحب بالخلاص والتضحية.

وفي تأمله عن الأبناء، لا يرى جبران فيهم ملكية خاصة، بل تجلّيات للحياة في حركتها الدائمة. يقول: "أولادكم ليسوا لكم، إنهم أبناء الحياة التي تشتاق إلى ذاتها." هذه الرؤية، التي تنزع الأبوّة من سطوة الامتلاك، تُعيد للأبناء فرديتهم وقدريتهم، وتُلقي على الأهل مسؤولية التوجيه لا السيطرة.

أما العمل، فيبدو عند جبران طقسًا روحيًا لا يقل شأنًا عن الصلاة. "أنتم تعملون لتسايروا الأرض وروح الأرض، ومن يغفل عن العمل يصبح غريبًا على الفصول." هنا، يتجلى انسجام الإنسان مع الطبيعة، لا بصفته كائنًا فوقها، بل كجزء من إيقاعها المقدّس.

في كل فصل من "النبي"، نلمس هذا الاتساق العميق بين البعد الأخلاقي والبعد الكوني، بين الفرد ومسؤوليته، وبين الحياة كرحلة ومسرح للتجلّي. حين يتحدث جبران عن الدين، لا يستحضره كمؤسسة أو شعائر، بل كحضور حي في كل لحظة، قائلاً: "حياتكم اليومية هي هيكلُكم ودينُكم. فكلما دخلتمها، اصطحبوا معكم كل ما فيكم من حب وعطاء." هكذا يتحول الدين إلى ممارسة وجودية تتغلغل في تفاصيل العيش، لا تنفصل عن الحب والعمل والصدق والفرح.

ولا يغيب عن الكتاب هاجس الرحيل، ذلك الذي لا يُقابل بالحزن، بل يُفهم كحلقة في دورة الحياة. يقول: "لحظة من السكون على جناح الريح، ثم تحملني امرأة أخرى إلى الحياة." ويهمس في موضع آخر: "إنني أغادركم مع الريح، ولكنني مع المدّ سأعود." الرحيل هنا ليس نهاية، بل عبور نحو استمرار آخر، في روح أخرى، في شكل آخر، دون انقطاع.

إن ما يجعل "النبي" كتابًا متجدّدًا في كل قراءة، ليس كثافة معانيه وحسب، بل تلك اللغة الممزوجة بالبصيرة، التي لا تُخاطب العقل وحده، بل تلامس القلب كمن يضع يده على جرحه برفق. ومن يقرأه لا يعود كما كان، بل يخرج منه محمّلاً بأسئلة، ومتخفّفًا من يقين أجوف، كأن جبران أراد لنا أن نعيش اليقظة لا الاكتفاء.

في نهاية المطاف، لا يفرض جبران وصاياه، بل يُنصت إلى نبض الإنسان، ويتكلّم بلسان روحه. و"النبي"، بهذا المعنى، ليس كتابًا لتعليم الفضيلة، بل نداءٌ دائم نحو الصدق الداخلي والتصالح مع الذات والآخر. هو نصّ منفتح، كلما عدنا إليه، وجدنا فيه ما يُضيء، وما يُعيد ترتيب فوضانا، بهدوء الشعر، ونفَس الحب، وعمق الإنسان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق