ميخائيل مسعود... حينَ يكتبُ الجبل - بوابة الكويت

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ميخائيل مسعود... حينَ يكتبُ الجبل - بوابة الكويت, اليوم الجمعة 4 يوليو 2025 01:48 مساءً

بوابة الكويت - بقلم: فاروق غانم خَدّاج
كاتبٌ لبنانيٌّ وباحثٌ في الأدبِ والفكرِ الإنسانيّ

في زمنٍ كان المنهجُ المدرسيُّ فيه أقربَ إلى الصحراءِ منه إلى الحديقة، كنتُ أُدرّس الصفّ التاسع، أبحث في كتب الدورات الرسمية عن نبعٍ يسقي عطش طلابي للأدب الحقيقي. وكم كانت دهشتي حين وجدتُ ذلك النصَّ الطافحَ بالحياة، المتماسكَ في لغته، الصادقَ في عبارته.

كان من كتاب دفتر من بلاد الجبل للدكتورِ ميخائيل مسعود.

حين قرأتُه، شعرتُ أنني أمام قلمٍ لا يكتبُ من بعيد، بل من عمقِ التراب. لم يكن نصًا يُقرأ فقط، بل يُعاش. كنتُ أتوهم أنه يكتب عن قريتي أنا، كأن الضيعة التي وصفها نَسَجها من تفاصيلَ أعرفها، من ترابٍ وطينٍ وصوتِ مياهٍ تتدفّق بين الحقول.

ما تردّدتُ لحظةً في اختياره امتحانًا في نهايةِ العام الدراسي. لم يكن مجرد نصٍّ للتقويم، بل كان مادّةً للتكوين. غنيٌّ بالصورِ والمعاني، خصبٌ بالتفاصيل، متينٌ في لغته، قابلٌ للتأويل، نبيلٌ في إحساسه. تفاعل معه الطلابُ كما يتفاعلُ القلبُ مع أنشودةٍ قديمة، وكأن النص أعادهم إلى أصوات الأمهات، إلى الينابيع، وإلى رائحة التنّور.

وفي عام 2011، كنتُ قد أصبحتُ منسّقًا للمرحلة المتوسطة والثانوية في المدرسة. طلبتُ من معلمة صف الشهادة الرسمية أن تطرح نصًّا من كتاب زهرة الدفلى في الامتحان النهائي، واخترنا معًا نص "قرب الشلال" للدكتور ميخائيل مسعود.
كان النص زاخرًا بالإيحاءات، نابضًا بالتفاصيل، ينبثق من نبع اللغة لا من قوالبها الجافة. ومن يومها بدأتُ أقرأ كتبه بقلب القارئ لا المعلّم، وبعين الابن لا المدرّس. كنتُ أتعرّف إليه دون أن ألقاه. أقرأه قبل أن أكتب له، وأحفظ ظلّه قبل أن أرى وجهه.

وفي صباحٍ ريفيٍّ، تدفّأ فيه القلبُ قبل أن تُشرق الشمسُ، وصلني منه كلام. لم تكن رسالته طويلة، لكنها حملت وقعًا عميقًا. كتب لي الدكتور ميخائيل مسعود يقول:

"صباحُ الخير. عرّفني بك، باختصار، إذا سمحت. إنني مُعجبٌ بأسلوبك الجميل، وأفكارك الرائعة."

ما أعذبها من لحظة، حين يقرأك من كنتَ تقرأه، ويعرفك من كنت تتمنى معرفته، وتلتقي النظرتان على الصفحة من غير لقاء.
لم تكن كلماته مجرد مجاملة، بل كانت مرآة رأيت فيها صورتي الأدبية تنعكس للمرة الأولى بصدق.
كأنّي كنتُ أكتبُ منذ سنوات لأصل إلى هذه اللحظة، التي قال لي فيها من قرأته يومًا: "أعجبتني أفكارك."
لقد فتح لي بهذه الكلمات بابًا من الثقة والدفء لا يُغلق.

حين خاطبني، لم يكن يكتب لي من برجٍ عاجيّ، بل من قلب الجبل. كأني سمعته يقول: "أنا أعرفك، لأنني كنتك."
وها أنا أبادله الكلمة بكلمة، والتحية بوفاء:
دكتور ميخائيل، لست أستاذًا في الجامعة فحسب، بل أستاذًا في الوجدان.
لست كاتبًا فقط، بل مدرسة في فنّ أن تكون بسيطًا وعظيمًا في آن معًا.

من حقل العزيمة في شمال لبنان خرج، لا حاملاً عصا راعٍ ولا ناي فتى، بل حاملًا قلمًا يعرف رائحة الخبز، وحكايات السنين، ويمشي بين العشب والعبارة بخفّة شاعر وفلسفة حكيم.
هو الأديب الجامعي، الإنسان القروي، الذي عرف الحرف فلم يتعالَ به، بل حمله كما تُحمل السنبلة: بانحناء.

في تعريفه الرسمي على صفحته، لم يضع لقب "دكتور"، ولم يذكر قائمة كتبه أو درجاته العلمية، بل قالها بعفوية الجذر: "فلاح... ابن فلاح."
وهنا يكمن سره؛ أن يشبه الأرض لا المنبر، أن يكون القمح لا الزينة، وأن يُقنعك أن الكلمة التي تنبت من تراب التجربة أصدق من ألف شهادة، وأبلغ من ألف لقب.

قرأت له دفتر من بلاد الجبل، فشعرت أنه لا يكتب عن قريته فحسب، بل عن الوطن القروي كله، عمّا تبقّى من دفء في هذا العصر البارد.
في سطوره، لا رومانسية مفتعلة، بل حرارة تخرج من قلب الحجارة القديمة.
في أسلوبه، لا بهرجة لغوية، بل بلاغة مصفّاة، نُحتت من صمت الينابيع وهمس المساء.
لا يكتب ليُبهر، بل ليُحب، ليمنح، ليذكّر القارئ بأن الأدب ليس عرضًا، بل صلاة تُقام بحبر القلب.

في كتابه، لا تظهر الطبيعة كخلفية للحدث، بل ككائن حي يتنفس ويكتب مع الكاتب.
الصنوبر لا يُذكر كغصن فقط، بل كأخ في المسيرة، والينبوع ليس مجرد ماء، بل ذاكرة تتدفّق.
الجبل في نصوصه ليس تضاريس، بل أب حكيم.

في إحدى صفحاته، كتب:
"الحجر في قريتي لا يسكن الطريق فقط، بل يسكن القلب."
عبارة تختصر فلسفته في رؤية التفاصيل، وتكشف عن عمق العلاقة بين الكلمة والمكان.
اللغة عنده تعيد للطبيعة مكانتها الأولى: مرآة للروح، وسكنى للحقيقة، ومصدرًا للصفاء.

دفتر من بلاد الجبل ليس مجرد مجموعة نصوص، بل دفتر إحساس صارخ بالوجود، من 116 صفحة تُشبه فصول العام: تأملات، خواطر، مشاهد من الريف، حكايات فيها بخور وصقر وصلاة.
نُشر أول مرة عام 1984، ثم أعيد طبعه مرّات عديدة، ووجّه لاحقًا إلى اليافعين، لما فيه من طهارة الأسلوب وصدق الحكاية.

لقد جعل من الأدب صورة ناطقة عن الوجدان اللبناني، ووضع يده على نبض الحياة اليومية لا من علٍ، بل من حضن المعاناة.
ولأنه لا يكتب من أجل الامتحانات بل من أجل الإيمان بالأدب، دخل من دون استئذان إلى قلوب الطلاب، والأساتذة، والقرّاء.

ومن ميخائيل مسعود نتعلم أيضًا أن البحث العلمي ليس مجرّد ورقة تُنجز لنيل شهادة، بل هو فعل حياة، ومغامرة فكر، وتجلٍّ لروحٍ تسهر على ما تكتب.
في زمنٍ تتراكم فيه رسائل الماجستير والدكتوراه على رفوف المكتبات، يعلوها الغبار، وتغلب عليها المنهجية التقليدية والتكرار، يصبح لأمثاله ضرورة أكثر من أي وقت.
دكاترة يكتبون بوهج التجربة، وبجمال البيان، لا بأحبار النسخ والقص واللصق.

وإذا نظرنا إلى المشهد الأوسع، نجد أن هؤلاء ينتمون إلى فسيفساء أدبية لبنانية نابضة، تتمازج فيها قمم الشوف والشمال، وتتكامل فيها الأصوات الصادقة التي حملت روح الأرض ووثّقت ذاكرة الإنسان.

تتلاقى قمم الشوف والشمال تحت ظلّ الأرز الخالد، ذلك الرمز الوطني العريق، وتكسوها ثلوج بيضاء صافية تحرس الصخور العظيمة التي تحكي قصص الأجداد، فتصبح الأرض ليست مجرد مكان، بل حكاية طبيعية تنبض في الكلمات، تزرع في النصوص عطر الحرية والصلابة.

ففي الشوف، برز خليل تقي الدين البعقليني، أب القصة القصيرة في لبنان، وحسيب عبد الساتر، ولحد خاطر، وفؤاد الخشن الذين أدخلوا البيئة الجبلية في قلب الحكاية اللبنانية.
ومن الشوف أيضًا الشاعر الوطني رشيد نخلة، واضع نشيد "كلنا للوطن"، وابنه أمين نخلة، الشاعر والمحامي، الذي أغنى الأدب العربي ببلاغة كلاسيكية وعمق وجداني.
أما في الشمال، فقد ارتقى الأدب على يد جبران خليل جبران، ظاهرة فكرية وروحية تجاوزت الزمن، صاغ بلاغته من دمعة وابتسامة، ومن حكمة المشرق وتمرد الغرب، حتى صار نبيًّا للكلمة الحرة في لبنان والعالم.
ومن الشمال أيضًا جاء جورج غانم، وعبدالله شحاده، وجبور الدويهي، وأحمد علي الزين، وعبدو وازن، بأقلام تلامس الجمال، وتكتب بجرأة، وتبني للإنسان بيتًا من حبر وحنين.

ومن موقعي كمدرّس ومؤلف وباحث، أجدني مدفوعًا إلى الدعوة الصادقة لتعزيز حضور الأدباء المتشبّعين بالروح اللبنانية الأصيلة في مناهجنا التعليمية، أمثال:
ميخائيل مسعود، ووليم الخازن، وسلمان زين الدين، وشوقي بزيع، ويوسف طراد، ومحمود نون، وميراي شحادة...
أولئك الذين يكتبون لا لهدف الإبهار، بل للإنارة، ويتنفسون في كل سطر عبق الحقل وظلال الجبال.
أقلام تنبع من تراب التجربة لا من رفوف الاستعراض، وتمنح الطالب لغةً من لحم حياته، لا حبرًا من ورقٍ غريب.

ولهذا، فإن الدعوة إلى إدراج هذه الأقلام في مناهجنا ليست مجرد اقتراح تربوي، بل نابعة من تجربة حيّة، من لقاء وجداني مع أدب لمس القلب وأيقظ الذاكرة.
وإذا كنتُ قد انطلقتُ من موقع المعلّم والباحث، فإن هذا المقال ينتهي بي إلى الإنسان الذي لمس جوهر التجربة، وعرف صاحبها قلبًا ونصًّا.
ولعلّه اعترافٌ صادقٌ من تلميذ كبير بفضل منارة لبنانية ظلّت تُنير الطريق بكلماتها.

الدكتور ميخائيل مسعود؛
هذه المقالة ليست تكريمًا، بل اعترافًا.
وأنا أكتبها لا من خلف مكتب، بل من حقل زرعت فيه كلماتك في قلبي، وبدأت تُزهر.
لقد عرفتك أولًا بنصوصك، ثم بكلماتك، ثم بابتسامتك الهادئة التي سرت عبر سطر قصير.
ومن يومها، صار الجبل ينطق بعباراتك، وصار الحرف بين يديك سنبلة تنمو وتُطعم.

فمن لا يعرف ميخائيل مسعود، لم يقرأ بعدُ كيف يكتب الجبل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق