المنفى كمساحة للكتابة: عن سلطة الرواية ومخاتلة الغياب - بوابة الكويت

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المنفى كمساحة للكتابة: عن سلطة الرواية ومخاتلة الغياب - بوابة الكويت, اليوم الاثنين 30 يونيو 2025 06:24 مساءً

بوابة الكويت - ما الذي يجعل الكتابة من الخارج، من المنفى، أصدق أو أعمق؟ هل تكتب اليد المرتجفة من البرد والحنين حقيقة أوضح من اليد المستقرة في دفء المكان؟ وهل يكون الخروج من الوطن دائمًا انفصالاً عنه، أم أحياناً نوعاً من الالتصاق الأكثر جوهرية، لأنه لا يكون إلا عبر الذاكرة واللغة؟

هكذا تبدأ الأسئلة حينما نتأمل تجربة الكتابة في المنفى، لا بوصفها خياراً جغرافياً أو قراراً سياسياً، بل بوصفها موقعاً نفسياً ولغوياً وأخلاقياً. المنفى ليس خريطة، بل وعي حادّ بالمسافة. وبين المسافة واللغة تنمو الكتابة ككائن مقاوم، هشّ ومضيء.

لا تجمع بين الشهادات الثلاث التالية وحدة المنفى فحسب، بل ما هو أعمق: وحدة الغياب، ووحدة البحث عن سلطة جديدة، سلطة لا تُمارس على الآخرين، بل تُمارَس على الألم، على المعنى، على الفقد. هذا ما يسعى إليه الكاتب حينما يفقد جذوره ولا يفقد صوته: أن يعيد ترتيب العالم كما يشتهي أن يُروى، لا كما شُهِد.
ثلاثة أصوات، ثلاث رؤى، وجذر مشترك واحد: الكتابة كفعل نجاة، كترميم للذات، وكحيازة رمزية لسلطة لم تُمنَح، بل انتُزِعت بالقلم. فهل المنفى، في نهاية المطاف، هو ما يُبعدنا عن الوطن، أم ما يقرّبنا من صوتنا الحقيقي؟

سلطة الرواية في مواجهة الجلاد 
في شهادة الكاتب والسجين السياسي السابق راتب شعبو، لا يبدأ المنفى عند الخروج من الوطن، بل في اللحظة التي يُصادَر فيها الحق في الحكاية. يقول لـ"النهار": "كانت دائماً عبارة الموت تحت التعذيب ثقيلة على قلبي إلى حد أنني كنت أتجنب المرور بها أو التوقف عندها هرباً من الألم النفسي الذي تسببه لي... أعتقد أن سبب ثقل هذه العبارة على نفسي نابع من أن الموت يحرم الضحية أن تروي ما مرت به".

 

الكاتب راتب شعبو.

 

هكذا تتحول الكتابة لاحقًا إلى وسيلة للبقاء، وسيلة لانتزاع الصوت من قبضة الصمت القسري. فبينما يهدد الجلاد الضحية بجعلها تتمنى الموت، يتشبث الكاتب بأمل ضئيل: أن يروي. لأن الرواية تعني الجمهور، وتعني الاعتراف، وتعني استعادة شيء من الذات. وعندما تصبح في يد الضحية سلطة السرد، حتى لو تأخرت، فإنها تنتقم من الجلاد بلغةٍ لا تشبه صراخ الألم، بل قوة الحكاية.

يقول شعبو: "كتابتي عن مغامرة الخروج من سوريا التي كنت ممنوعاً فيها من السفر، كانت تنطوي، إضافة إلى متعة القص نفسها، على متعة تشبه ما يحققه الانتقام، ذلك أن للراوي سلطة على كل عناصر روايته، بما في ذلك تلك العناصر التي تسحقه بسلطتها".

منفى الاختيار: الكتابة بحثًا عن شرطها 
أما الروائي السوري إسلام أبو شكير، فإن علاقته بالمنفى لا تبدأ من لحظة الطرد أو التهديد، بل من شعور داخلي عميق بعدم التوافق مع مناخ البلاد. يكتب لـ"النهار": "لا أدري إذا كانت كلمة (منفى) أو (مهجر) دقيقة في توصيف حالتي، لأن قرار المغادرة قبل 25 عاماً كان خياراً شخصياً غير مرتبط بسبب مباشر... غير أن الجوّ العام لم يكن مريحاً، ولا مؤاتياً، لتجسيد أحلام كنت أتطلع إليها".

 

الروائي إسلام أبو شكير.

الروائي إسلام أبو شكير.

 

في الخارج، وبتوافر شروط الكفاية والأمان والحرية، بدأت تجربته الإبداعية بالتبلور. لكن هذا النضج لم يكن خاليًا من الخسارة. فقد حُرم التفاعل المباشر مع عناصر التربة الأصلية: الناس، الأماكن، الذكريات، وهي عناصر يراها ضرورية لشحن التجربة الإبداعية بطاقة الحياة.

ومع أن الحضور الأدبي بدأ عربياً ثم سورياً بعد الثورة، فإن الإحساس بالانفصال ظل يرافقه. يكتب: "الغياب الطويل عن التربة الأصلية التي أنتمي إليها حرمني فرصة التفاعل المباشر... وسواها من عناصر ملهمة يحتاج إليها الكاتب لتطوير تجربته، وشحنها بطاقة الحياة الضرورية".

ضد الالتزام الخطابي: المنفى كحرية رمزية 
أما الكاتب والمترجم فادي أبو ديب، فتنطلق شهادته من رفضه اختزال الأدب بوصفه استجابة مباشرة للسياسة أو الحدث. يرى أن الشعر والفن هما مجالان رمزيان لتغيير العالم النفسي، لا لإعادة قول الواقع: "لا أرى الشعر مثلاً مكاناً للتعبير عن تفاعل الإنسان مع الأحداث بشكل مباشر، بل بوصفه مساحة في العالم الرمزي للإنسان... أما إذا كان الشعر وسيلة للتعبير بشكل آخر عن الظاهرة السياسية فهذه كارثة كبرى على المستويين الفكري والرمزي".

التحول الأبرز في كتابته جاء من انتقاله إلى لغة العامية، لا لغايات جمالية بل لأنها الأقرب إلى تجربته الحسية المباشرة. يكتب لـ"النهار": "يحتاج الإنسان أن يعبّر عن الواقع كما يختبره في المنزل والشارع من دون أن يمرّ بفيلتر اللغة الرفيعة. تصبح الكتابة باللغة الرفيعة في كثير من الأحيان نوعاً من التزوير والتآمر على حقيقة ما يحدث".

 

الكاتب والمترجم فادي أبو ديب.

الكاتب والمترجم فادي أبو ديب.

 

الكتابة من المنفى، في رأيه، تمنح امتياز الرؤية من بعيد، لكنّها تحرم التلامس الحي مع الداخل. وبين المسافة والحرية، يختار أبو ديب ما يسميه "فضاء للإنسان بموازاة الحدث"، لا استجابة له.

ختاماً، تجارب شعبو وأبو شكير وأبو ديب، على تباينها، تكشف كيف تتحول الكتابة في المنفى من مجرد تعبير عن الغربة إلى أداة للمعرفة، وساحة للمقاومة، ولغة لاستعادة التوازن. إنها ليست بحثًا عن وطن بديل بقدر ما هي بناء مستمر لمعنى يتجاوز الخرائط والانتماءات المفروضة. في كل سطر يُكتب من بعيد، ثمة محاولة لاستعادة الداخل، لا بوصفه مكاناً، بل بوصفه جوهراً إنسانيًا هشّاً يُقاوم الفقد بالنص. هكذا لا تصبح الكتابة في المنفى مجرد رد فعل، بل فعل مؤسِس لرؤية، لذات، ولعالم ممكن.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق