د. بني هاني يكتب عن: اقتصاديات الغباء (Economics of Stupidity) #عاجل - بوابة الكويت

منوعات 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
د. بني هاني يكتب عن: اقتصاديات الغباء (Economics of Stupidity) #عاجل - بوابة الكويت, اليوم الثلاثاء 15 يوليو 2025 06:42 مساءً

بوابة الكويت - جو 24 :

كتب أ. د. عبدالرزاق بني هاني - 

القفص المُذهّب لغاردينا: مجتمع على حافة الهاوية (The Gilded Cage of Gardina : a Society on the Brink)، ليس كتاباً حقيقياً أو عملًا أدبياً معروفاً، بل هو جزء مُتخيل في رواية خيالية كتبتها في نهاية العام (2011)، بعنوان غاردينا، ونشرتها دار فضاءات – عمان (الأردن)، لتتناسب مع الظروف المجتمعية الصعبة التي تخيلتها في رحلتي، بمعية د. بسام الساكت، إلى جنوب أفريقيا، في العام (2003). لكن أصل الخيال يعود إلى جولة أخذني بها ابن خالي الراحل ممدوح البطاينة، عندما وصلت إلى مدينة لوس أنجلس في ولاية كاليفورنيا، الأمريكية، في أواخر شهر آب (1974). فكانت الصدمة ثقافية بامتياز، في بلدة غاردينا التي تقع إلى الجنوب الغربي من مدينة لوس أنجلس، حيث صالات القمار، التي أظهرت لي بكل وضوح تفاهة بعض الفكر الإنساني، وأولوياته المادية التافهة.

تمثل غاردينا، الرواية المُتخيلة، دولة المدينة التي تترنح على شفا الانهيار، مفارقة غريبة ومقلقة. فشرايينها التي تصل أجزائها بعضها ببعض، والتي كانت ذات يوم طرقاً فخورة تربط بين أحيائها المترامية الأطراف، أصبحت الآن هياكل عظمية من الأسفلت المتشقق والحفر التي تشبه أفواه الحيوانات المفترسة الفاغرة. ومع ذلك، تعج هذه الشوارع المُدَمَرة بعدد مذهل من السيارات، التي تلمع هياكلها الخارجية المصقولة في تحدٍ صارخ للانحطاط الحضري. هذه هي الأولى من بين العديد من التناقضات التي تحدد مجتمعاً يخفي فيه السعي وراء المُلهيات الزائلة يأساً عميقاً ومنتشراً.

الهواء في غاردينا كثيف بمزيج حلو، ولاذع من أبخرة العوادم والتبغ الرخيص. التدخين هو هواية وطنية، ولازمة عصبية لشعب يعيش على حافة الهاوية. ومن الأحياء المنظمة والنظيفة للأشخاص ذوي النفوذ السياسي إلى مدن الطوب والصفيح القذرة التي تتشبث بأطراف المدينة، يُعد وهج السيجارة رفيقاً دائماً، وتمرداً صغيراً، وميسور التكلفة ضد شعور طاغٍ بالعجز. الفقر هو الوتر المُهيمن في سيمفونية الخلل الوظيفي في غاردينا. فالدولة، المثقلة بالديون لائتلاف من الحكومات الغربية التي تتربص بالمدينة وأهلها، تخلت منذ فترة طويلة عن أي تظاهر بتقديم خدمات اجتماعية قوية. فالقروض، التي تم الترويج لها في البداية على أنها شريان الحياة للتجديد الوطني، أصبحت حجر رحى، حيث تلتهم مدفوعات الفائدة المذهلة الإيرادات القليلة التي يمكن لحكومة غاردينا حشدها.

يُجبر هذا الواقع الاقتصادي جزءاً كبيراً من المواطنين على الدخول في سباق يومي يائس من أجل البقاء. ومع شروق الشمس، التي تلقي بظلالها الطويلة على الواجهات المتهالكة للمباني التي كانت عظيمة في يوم من الأيام، تصبح حاويات القمامة في المدينة نقطة محورية لتجارة قاتمة. هنا، يقوم المعوزون، صغاراً وكباراً، بالبحث في نفايات من هم أكثر حظاً. أيديهم القاسية والملطخة تبحث عن أي شيء ذي قيمة: بقايا طعام لإخماد الجوع القارس في بطونهم، أو قطع بلاستيكية ومعادن مهملة لبيعها مقابل أجر زهيد لتجار الخردة المتجولين، أو حُلية منسية قد توفر لحظة راحة من قسوة وجودهم. يعمل هذا الاقتصاد غير الرسمي (Informal Economy) للنبّاشين في ظل مجتمع يُنكر وجودهم أصلاً.

ومع ذلك، في مواجهة هذا الفقر المدقع، تزدهر ثقافة استهلاكية واضحة، تكاد تكون محمومة. المواطن العادي، الذي غالباً ما يكافح من أجل تحمل تكاليف الضروريات الأساسية، سيتخلى بسهولة عن مكاسبه الضئيلة من أجل الإثارة الزائلة لمباراة رياضية في بطولة ما، أو الهروب من الواقع في مسرحية موسيقية فخمة. والملاعب والمسارح، التي غالباً ما تكون الهياكل الوحيدة التي تتم صيانتها جيداً في بحر من الإهمال، تكون مكتظة بالجماهير المتحمسة، حيث يطغى هديرها وتصفيقها مؤقتاً على القلق الذي ينتظرهم في الخارج. هذه الظاهرة، التي أطلق عليها علماء الاجتماع الإنفاق المؤسف (Regrettable)، لا تنبع من العبث، بل من يأسٍ متجذر بعمق. وعندما يبدو المستقبل قاتماً وبعيد المنال، يصبح إغراء الإشباع الفوري، مهما كان عابراً، لا يقاوم.

ينعكس هذا الانحطاط المجتمعي بوضوح في تفريغ مؤسساته التعليمية. المدارس الحكومية، التي كانت يوماً محركات للحراك الاجتماعي، أصبحت الآن هياكل متداعية لما كانت عليه في السابق. فهي تعاني من نقص التمويل والاكتظاظ، ويعمل بها معلمون محبطون، غالباً ما يكونون جائعين كطلابهم، وفيها يطلب المعلم سيجارة من تلميذه الصغير في الصف السادس، لأن المعلم لا يملك ثمن السيجارة. والكتب المدرسية ترف، والمناهج الدراسية جُردت حتى العظم. ونتيجة لذلك، فإن معدلات معرفة القراءة والكتابة والحساب في هبوط مستمر، ويتربى جيل بأمل ضئيل في اكتساب المهارات اللازمة لإعادة بناء مجتمعهم المكسور.

بل إن التدهور أكثر وضوحاً في التعليم العالي. الجامعات الوطنية، التي كانت مصدر فخرٍ كبير في حقبة ماضية، أصبحت شبحاً لما كانت عليه. فقد غادر الكثير من أعضاء هيئة التدريس الأكثر تميزاً منذ فترة طويلة إلى شواطئ أكثر استقراراً، وتضاءل إنتاجها البحثي إلى حدٍ كبير، وبات التزوير عملاً مقبولاً. والشهادة من هذه المؤسسة، التي كانت في يوم من الأيام جواز سفر إلى مستقبل مزدهر، أصبحت الآن أكثر بقليل من قطعة ورق مزخرفة، وشهادة على نظام خذل شبابه.

في انفصال غريب ومعبّر، تقوم حكومة غاردينا، من خلال جهازها الإعلامي الذي تسيطر عليه بإحكام، بالترويج بلا هوادة لسلامة وأمن الأمة. نشرات الأخبار المسائية هي عبارة عن مونتاج منسق بعناية لمسؤولين مبتسمين، وصحافيين كاذبين، ومسيرات وطنية، وتصريحات حول انخفاض معدلات الجريمة. هذه الرواية عن مجتمع آمن ومنظم هي قشرة هشة، يسهل تحطيمها بالواقع الأليم في الشوارع. بينما تتباهى الدولة بسيطرتها، يرتفع معدل الانتحار باطراد، وهو وباء صامت يشهد على الخسائر النفسية العميقة للعيش في حالة أزمة دائمة. الأسباب متنوعة بتنوع الأفراد: عار البطالة، والعبء الساحق للديون، وتآكل الأمل.

في الوقت نفسه، تتزايد الجريمة ذاتها التي تنكرها الحكومة. السرقة البسيطة، التي كانت نادرة في السابق، أصبحت الآن شائعة. كما تتزايد الجرائم الأكثر عنفاً، والتي غالباً ما تنبع من اليأس أو تجارة المخدرات التي تزدهر في زوايا المدينة المنسية. من المفهوم على نطاق واسع أن إحصاءات الجريمة الرسمية هي عمل من أعمال الخيال، وأداة للدعاية لتهدئة السكان القلقين والحفاظ على وهم الاستقرار لدائنيهم الأجانب. يفهم أهل غاردينا، في لحظات هدوئهم، الحقيقة: الأمن الحقيقي الوحيد هو ذلك الذي يمكنهم توفيره لأنفسهم، وهو واقع يعزز سخرية عميقة الجذور وانعدام ثقة مدمر في السلطة.

لعل وفرة السيارات على الطرق المدمرة هي الرمز الأكثر إثارة للمشاعر لحالة غاردينا. بالنسبة للكثيرين، يعد امتلاك سيارة، حتى لو كانت طرازاً مستعملًا ومتهالكًا، هو رمز المكانة المطلق، وتأكيداً ملموساً للفردية والقيمة في مجتمع يبدو أنه لا يقدم سوى القليل من أي منهما. إنها فقاعة خاصة في عالم فوضوي، ووسيلة للتنقل في المجال العام المتدهور دون الحاجة إلى التعامل مباشرة مع ما فيه من بُغض. السيارة هي ضرورة عملية في مدينة ذات نظام نقل عام معطل، وفي الوقت نفسه عكاز نفسي، وشهادة على نمط حياة طموح بعيد المنال بالنسبة لمعظم الناس.

ولكن الأكثر انتشاراً من سحب الدخان هو هوس المدينة بمركباتها. فهنا، يتجلى طقس عميق ومعبّر بشكل يومي على الأرصفة المحطمة وفي الأزقة المليئة بالتراب: الغسيل فائق العناية، الذي يصل إلى حد التبجيل، للسيارات. في مجتمعٍ غالباً ما تكون فيه النظافة الشخصية رفاهية مهملة، يغسل مواطنو غاردينا سياراتهم أكثر مما يغسلون أجسادهم، على الرغم من ندرة المياه فيها. فتُستخدم دلاء المياه الثمينة بحب لتلميع جسم السيارة ومسح كل ذرة غبار عن سطحها، ما يخلق طبقة نهائية عاكسة كالمرآة تعكس صورة مشوهة للبؤس المحيط. السيارة ليست مجرد مركبة؛ إنها غلاف خارجي نقي، وإعلان عام عن القيمة يتعارض بشكل صارخ مع الإهمال الخاص وانحلال المدينة نفسها، ونضيف إلى ذلك بأن مواطني المدينة مولوعون بعدد الأرقام على لوحات سياراتهم، فكلما قل العدد كان ذلك تعبيراً عن المكانة الاجتماعية الموهومة. وفي أحد الأحداث في المدينة طلق رجل زوجته الجميلة مقابل الحصول على رقم سيارة ثلاثي الأعداد، من الرجل الذي أخذ وزجته منه.

تعاني مدينة غاردينا من نقص حاد في الطاقة، وهذا الخلل العميق متجذر في فشل كارثي في إدارة موارد المدينة. فأحد المصادر للدين الساحق هو مفارقة في حد ذاته: المدينة لديها طاقة وفيرة. فشوارعها، حتى في أفقر أحيائها، مضاءة بشكل دائم وبسطوع. والمنازل والملاعب والمسارح تعج بتدفق غير منقطع للطاقة. ومع ذلك، هذه الطاقة ليست ملكهم. يتم شراؤها بسعر باهظ من دول مجاورة، في صفقة أبرمتها إدارة سابقة استبدلت الملاءة المالية طويلة الأجل بالراحة قصيرة الأجل. التكلفة اليومية الباهظة لـ "إبقاء الأضواء مضاءة" تستنزف ثروة الأمة، ما يضمن عدم وجود ما يكفي من المال لإصلاح الطرق أو تمويل المدارس أو إعالة الفقراء. إنه انحلال باهر ومضيء، وذلك على الرغم من أن المدينة تملك مصادر وفيرة من موارد الطاقة غير المُستغلة.

لذلك، فإن غاردينا مجتمع عالق في حلقة مفرغة. فالبنية التحتية المتهالكة تفاقم الفقر، والذي بدوره يغذي العلل الاجتماعية وثقافة التفكير قصير المدى. ويحرم تدهور التعليم الأمة من حلالي المشاكل في المستقبل، في حين أن إنكار الحكومة ودعايتها لا يؤديان إلا إلى تعميق الهوة بين الحكام والمحكومين. أهل غاردينا صامدون، واسعو الحيلة، وفخورون بشدة، لكنهم محاصرون في قفص مذهب من صنعهم، مجتمع يكون فيه هدير محرك على طريق محطم هو صوت حلم يحتضر.

قدمنا لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى هذا المقال : د. بني هاني يكتب عن: اقتصاديات الغباء (Economics of Stupidity) #عاجل - بوابة الكويت, اليوم الثلاثاء 15 يوليو 2025 06:42 مساءً

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق