نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
د. بني هاني يكتب عن: اقتصاديات النفاق والجهل والقمامة #عاجل - بوابة الكويت, اليوم الاثنين 14 يوليو 2025 11:24 صباحاً
كتب أ. د. عبدالرزاق بني هاني -
أعجبني قول لصديق أمريكي، ذكر فيه رأياً مأثوراً لأحد الفلاسفة المعاصرين عن مجتمع النفاق والجهل، يطرح فيه سؤالاً بعنوان المرآة الملطخة: تفكيك القذارة التي نعيش فيها (The Stained Mirror: Deconstructing the Filth We Live In). وقد قصد فيه كيف نفهم المجتمع الذي لا يُبالي بخراب البيئة المحلية، وتشويه جمالية المكان الذي يعيش فيه، ولماذا نمارس النفاق ولا نستحي من ذلك! وكان يخطر ببالي ما كنت أسمعه من وفود البنك الدولي، قبل ما يقرُن من ثلاثين عاماً حول نظافة عمان، وكيف أنه أنظف من بعض مدن العالم، في ذلك الوقت؛ لندن ونيويورك، وواشنطن العاصمة.
اسمحوا لي أن أبدأ بالقول بأني اعتدت، منذ سنوات عديدة مضت، وإلى هذه اللحظة، على ممارسة يراها البعض غريبة عنا، كأفرادٍوجماعات؛ ومفادها بأنني عندما أذهب إلى المسجد في بعض الأيام، أضع قفازاً من البلاستيك على يدي، مصطحباً بعض أحفادي وأسباطي، وأحمل كيساً بلاستيكياً، كي نميط الأذى الذي نستطيع إماطته، ونجمع القمامة الملقاة على جانبي الشارعالضيق، من الحارة التي أقطن فيها حتى باب المسجد، ثم نلقي ما نجمعه في أقرب حاوية، مردداً على مسمع الأحفاد والأسباط بأن النظافة من الإيمان. وقد كنت أقوم بهذا العمل، مع بعض طلبتي،أيام عملي أستاذاً في جامعة اليرموك، التي تحولت من لوحة جمالية إلى مرتع لعددٍ كبير من المدخنين، وشاربي القهوة والسوائل الغازية، لا يبالي معظمهم برمي مخلفات ما يستهلكونه في حدائق الجامعة.
إن كوب القهوة الورقي الذي ألقى بها أحدهم، وتتقاذفه الرياح هنا وهناك، والكيس البلاستيكي العالق على غصن شجرة يانعة، وعقب السجائر الملقاة في بالوعة الصرف الصحي، كل هذه الأشياءليست مجرد حوادث منعزلة لسوء السلوك، بل هي الحطام المتناثر لمجتمع يعاني من مرض مُعقد ومتجذر. وإن اعتبار رمي القمامة مجرد فعل من أفعال الإهمال هو تجاهل متعمد للشبكة المعقدة من الاختلالات الاجتماعية والنفسية التي جعلت شوارعنا ومساحاتنا المشتركة مكباً للنفايات. وعندما نغوص في طبقات هذه الظاهرة البشعة، نكشف عن انعكاس مقلق لمجتمعاتنا المحلية، وهو باختصارمشهد يشوبه الغل والتكسب من نظام اجتماعي واقتصادي، لا يشعرون بالانتماء إليه، ولامبالاة عميقة، وجهل متعمد، ونفاق مذهل، واحتقار لكل ما هو جميل وإنساني.
وعلى المستوى الأكثر سطحية، يُعتبر رمي القمامة فعلاً من أفعال الإهمال، وكأنه هفوة لحظية في الحكم على الأمور. فالأب المتعب الذي يسمح لغلاف الحلوى الذي بيد طفله بأن يطير بعيداً، وسائق السيارة المتعجل الذي ليس لديه وقت للبحث عن حاوية المهملات، والمُتنزِه الذي يقنع نفسه بأن ترك بعض المناديل ومخلفات الطعام والشراب في المكان الذي جلس فيه هو تجاوز بسيط. وغالباً ما يولَد هذا الإهمال من شعورٍ بالانفصال عن المحيط المادي والاجتماعي، الذي يعيش فيه. وفي حياتنا التي تتزايد فيها الرقمنة والفردانية، يمكن أن يبدو العالم الملموس خارج أبوابنا الأمامية كخلفية عابرة وليس كمنزل مشترك. وهذا الانفصال يُعزز غياب المسؤولية الشخصية. فالقمامة في الشارع، والحديقة، ومكان العمل، والجامعة – كل هذه تصبح "مشكلة شخص آخر"، ومساحة للاستهلاك المؤقت، ثم تركها ملوثة، مع قليل من التفكير في العواقب. والموقف السائد هو تغليب الراحة على الضمير، وهو قرار صغير جداً، ولكنه عندما يتضاعف ملايين المرات، فإنه يُغير بيئتنا الجماعية بأكملها. وهو ما نسميه في علم اقتصاديات البيئة أثر الفراشة (Butterfly Effect). فحركة جناح الفراشة عندما تزداد وتتراكم فإنها قد تحدث عواصف هوجاء مُدمرة! وأضيف إلى ذلك ما مُسميه في علم الاقتصاد الآثار الخارجية (Externalities). فكل فعل استهلاكي وإنتاجي يتبعه أثر خارجي، سالب أو موجب. فعندما يحرث المزارع أرضع كي يزرعها ويبيع منتجه، فهذا أثر خارجي موجب القيمة، أما المستهلك الذي يرمي مخلفات طعامه وشرابه في الشوراع، فهذا أثر خارجي سالب القيمة، ولها تبعات تراكمية مُضرة على صحة البشر والشجر.
وإذا بحثنا أعمق قليلاً، يكشف هذا الإهمال عن قوة أكثر عمقاً وتدميراً، وهي اللامبالاة. فاللامبالاة ليست مجرد عدم اهتمام؛ بل إنها عجز مُكتسب، واستسلام ساخر لفكرة أن الأمور لن تتحسن أبداً، أي فقدان الأمل بإصلاح الناس وتعديل سلوكهم. وفي المجتمعات التي تعاني من الإهمال المزمن، حيث تواجه الخدمات العامة نقصاً في التمويل والفرص شحيحة، يمكن أن يتخلل شعور باليأس، حتى من الهواء الذي نستنشفه. وعندما يشعر الناس بأن أصواتهم غير مسموعة، وبأن رفاهيتهم ليست من أولويات من هم في السلطة، يمكن أن ينشأ تجاوب عكسي يتمثل في ازدراء الأماكن العامة، ومحاولة تخريبها، عن قصد وغير قصد. وفي خضم هذا الحال يطرح الأفراد سؤالاً: لماذا يجب أن يهتموا بمجتمع يشعرون أنه لا يهتم بهم؟ هذه اللامبالاة هي احتجاج صامت، واستسلام هادئ لفكرة أن بيئتهم قد أُفسدت بالفعل، وأن قطعة قمامة أخرى لن تحدث فرقاً! إنها العَرَض المرئي لعلة اجتماعية أعمق، وعلامة على أن العقد الاجتماعي غير المكتوب بين المواطن والدولة قد تم خرقه.
ولعل هذا العقد المكسور يتجلى بأوضح صوره من خلال عدسة العنصرية. ومفهوم العنصرية البيئية ليس بناءً نظرياً؛ بل هو واقع يعيشه الملايين. وتاريخياً وحاضراً، تحملت المجتمعات المهمشة، التي تتكون في الغالب من الفقراء والأقل حظاً وذوي الوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض، بشكل غير متناسب عبء المنتجات الثانوية السامة لمجتمعاتنا الاستهلاكية. وهي الأحياء التي من المرجح أن توجد فيها مكبات النفايات ومحارقها ومواقع النفايات الصناعية. وهذه ليست مصادفة؛ إنها نتيجة عقود من سياسات الإسكان التمييزية وقوانين تقسيم المناطق والتقليل المنهجي من قيمة حياة وصحة هؤلاء السكان.
عندما نتعامل مع مجتمع ما باستمرار على أنه مكب للنفايات، فمن غير المستغرب بشكل مأساوي أن تتجذر ثقافة رمي القمامة. الرسالة المرسلة من مستوى ما إلى الأسفل واضحة: هذا المكان، وبالتالي الأشخاص الذين يعيشون هنا، لا يستحقون بيئة نظيفة وصحية. وبالتالي، فإن انتشار القمامة في مثل هذه المناطق ليس انعكاساً للشخصية المتأصلة للسكان، بل هو مرآة للقيمة المجتمعية الممنوحة لهم. فتصبح نبوءة تحقق ذاتها؛ لأن البيئة المهملة تعزز الشعور باليأس والحرمان، الأمر الذي يمكن بدوره أن يؤدي إلى انخفاض الإحساس بالمسؤولية الشخصية عن تلك البيئة. وبالتالي فإن إلقاء اللوم على سكان هذه المجتمعات بسبب حالة محيطهم دون الاعتراف بالقوى المنهجية الفاعلة هو تشخيص قاسٍ ومبسط للمشكلة.
ما يضاعف هذه القضايا الدور المتفشي للجهل. في حين قد يبدو ذلك غير محتمل في عصر المعلومات، فإن جزءاً كبيراً من السكان لا يزالون في غفلة تامة عن العواقب بعيدة المدى لأفعالهم التي تبدو صغيرة. فقد لا يعرفون أن الزجاجة البلاستيكية التي يلقونها في الشارع ستجد طريقها على الأرجح إلى مجرى مائي، حيث تتحلل إلى جزيئات دقيقة، وتسمم الحياة المائية، وتدخل في النهاية في سلسلة الغذاء. وقد لا يكونون على دراية بالتكلفة الهائلة للتنظيف، وهو عبء مالي يتحمله في النهاية جميع دافعي الضرائب ويحوّل الموارد المالية المُتاحة عن الخدمات العامة الأساسية الأخرى. وهذاالشكل من الجهل ليس بالضرورة أن يكون جهل متعمد، ولكنه جهل خطير. وغالباً ما تفشل أنظمتنا التعليمية في غرس شعور عميق ودائم بالوعي البيئي منذ سن مبكرة. فنحن نعلم الأطفال القراءة والكتابة، لكننا غالباً ما نهمل تعليمهم قراءة لغة الأرض، وفهم الترابط الدقيق لأنظمتنا البيئية.
أخيراً، يجب أن نواجه شبح النفاق الشاهق. نحن نعيش في مجتمع يعلن حبه للطبيعة، ويسوّق لنفسه بصور المناظر الطبيعية الخلابة والمساحات الخضراء المثالية. فنحن نسمع ليل نهارالأغاني والأهازيج عن بلدي الأخضر، وفيه يتشدق السياسيون بحماية البيئة. ومع ذلك، فإن أساس ثقافتنا الاستهلاكية مبني على استعمال الشيء مرة واحدة ثم الرمي، ليتم تشجيعنا على شراء المزيد، واستهلاك المزيد، والتخلص من المزيد. وغالباً ما تكون العبوات التي تغلف منتجاتنا غير جيدة وغير قابلة لإعادة التدوير. ويعطي نموذجناً الاقتصادي الأولوية للربح قصير الأجل علىحساب الاستدامة طويلة الأجل. وهذا بدوره يخلق تنافراً معرفياً عميقاً. ومن مفارقات الأمور بأنه يُطلب منا الاهتمام بالبيئة، ومع ذلك يتم تشجيعنا في الوقت نفسه على المشاركة في نظام يدمرها بنشاط.
وهذا النفاق يتسرب إلى المستوى الفردي. فالشخص نفسه الذي ينشر صورة لغروب الشمس الجميل، من مكان مقابل سد الملك طلال، على وسائل التواصل الاجتماعي، مع تعليق حول حب الوطن،قد لا يتردد في رمي عقب سيجارة من نافذة سيارته، أو حتى رمي أكياس من مخلفات الطعام وأكياس البلاستيك. وقد يغض صاحب المنزل، الذي يحافظ بدقة على حديقته الخاصة، الطرف عن القمامة المتراكمة على الرصيف العام خارج سياجه مباشرة. لقد أصبحنا بارعين في تجزئة ضميرنا بشكل عام، وحول الوضع البيئي بشكل خاص، في أداء تمثيلية عامة من الاهتمام بينما ننخرط في أعمال تدنيس خاصة.
في الختام، القمامة التي تصطف في شوارعنا هي أكثر بكثير من مجرد مصدر إزعاج جمالي. إنها قطعة أثرية اجتماعية معقدة، وشهادة على إخفاقات مجتمعاتنا. إنها تتحدث عن مجتمعٍ غالباً ما تتفوق فيه الراحة الفردية على المسؤولية الجماعية، حيث تكون اللامبالاة استجابة عقلانية للإهمال، وحيث تحدد التفرقة المنهجية بيئة من يستحق الحماية. إنها تسلط الضوء على جهلنا الجماعي بشبكة الحياة المعقدة التي تدعمنا، وتكشف النفاق العميق لثقافة تستهلك الموارد بينما تدعي أنها تعتز به. وفي سبيل تنظيف شوارعنا حقاً، يجب أن نفعل ما هو أكثر من مجرد تركيب المزيد من سلال المهملات وإطلاق حملات لمكافحة رمي القمامة. يجب أن نشرع في المهمة الأكثر مشقة، المتمثلة في تنظيف مجتمعاتناالمحلية. وهذا يتطلب تحولاً جذرياً في قيمنا، وتفكيك المظالم المنهجية، والالتزام بالتعليم، ومواجهة صادقة وغير مريحة مع النفاق الذي يسمح لنا بإشاحة النظر عن الفوضى التي صنعناها. وأعود بالقول إلى أن المرآة الملطخة لشوارعنا المليئة بالقمامة تعكس مجتمعاً يمكن التخلص منه، في كثير من النواحي، تماماً مثل القمامة التي نتتخلص منها بإهمال. والسؤال هو ما إذا كنا نملك الشجاعة لرؤية انعكاسنا بوضوح والإرادة لبدء العملية الطويلة والصعبة لمسحها وتنظيفها. وكما يقول المثل الصيني: الإرادة الحرة تصنع للإنسان جناحين!
قدمنا لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى هذا المقال : د. بني هاني يكتب عن: اقتصاديات النفاق والجهل والقمامة #عاجل - بوابة الكويت, اليوم الاثنين 14 يوليو 2025 11:24 صباحاً
0 تعليق