نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من الرقابة إلى الفراغ: هل يصوغ النشر السوري حريته أم يعيد إنتاج محظوراته؟ - بوابة الكويت, اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025 09:44 مساءً
لكن مع التبدلات السياسية العاصفة وسقوط النظام، بدت لحظة النشر في سوريا أمام مفترق طرق، لا يخلو من التباسات وتناقضات. فهل انتهت الرقابة فعلاً أم أننا أمام انتقال خفي من سلطة القمع إلى سلطة التجاهل، ومن الرقيب الصريح إلى الرقابة الذاتية أو الدينية أو المجتمعية؟
هذا ما تحاول"النهار " تفكيكه، عبر شهادات مباشرة من ناشرين وكُتّاب سوريين خاضوا التجربة في ظروف ما بعد السقوط.
الرقابة الذاتية: وعي جديد أم قيد داخلي؟
يرى مدير "دار كنعان للنشر" في دمشق، سعيد البرغوثي، أن التغيير الأساسي لم يكن في القوانين أو في بنية الرقابة، بل في الشعور الداخلي للناشر والكاتب، إذ يقول: "التغير الأهم بعد سقوط النظام هو أن الرقابة أصبحت ذاتية، لكنها رقابة تتجاوز الخوف، وتنتقل إلى مساحة المسؤولية. لم تعد السلطة تخيفنا كما كانت، بل بات علينا نحن أن ننتبه لتوظيف الموضوعات الإشكالية ضمن النصوص. فالدين والسياسة والجنس لا يجب أن تكون محرّمات بحد ذاتها، لأنها موجودة في حياة الناس، بل المهم هو كيف نوظفها فنياً".
ويُضيف البرغوثي أن الإشكال لا يكمن في التطرّق إلى هذه المواضيع، بل في إقحامها من دون مبرر فني: "عندما تكون هذه العناصر مقحمة في النص بهدف الاستفزاز أو الترويج أو الإثارة، فإنها تُسيء إلى النص وتقلل من قيمته. لكن عندما تُستخدم لخدمة البناء الدرامي أو السياق الفكري، فإنها تصبح مشروعة، وربما ضرورية".
من هنا، يعتبر البرغوثي أن الرقابة التقليدية لم تعد تواكب التحولات، وأن الإبقاء على آليات المنع أو المصادرة المباشرة هو "نوع من الغباء الثقافي"، في زمن باتت فيه المعلومات متاحة بوفرة، والرقابة التقنية غير مجدية.
فراغ مؤسسي أم قمع جديد؟
لكن الصورة لا تبدو بهذا القدر من التفاؤل لدى المترجم والشاعر والناشر أحمد م. أحمد، الذي يقول لـ«النهار» إن اللحظة الراهنة في سوريا تُشبه حالة الفراغ الثقافي المتوتر، لا الانفتاح الحقيقي.
يوضح أحمد: "بعد عقود من هيمنة الرقابة، نجح بعض الناشرين السوريين في إعادة إنتاج كتب تأسيسية وإشكالية داخل سوريا نفسها، لم يكن يُتوقع أن تحصل على موافقة النشر. وقد مررتُ بتجربة كهذه شخصياً، إذ وافق الرقيب على كتاب أنثروبولوجي حساس، وأخبرني لاحقاً بأنه أحد أهم الكتب التي قرأها في حياته".
لكن هذا النوع من التسامح لم يعد موجوداً في ظل سلطة الأمر الواقع الجديدة، وفق ما يرى:"لم أجد في عيون الناشرين الذين التقيتهم أخيراً في معارض مثل أبوظبي سوى الحيرة والإحباط. الجميع ينتظر أن تتضح معالم السلطة الجديدة، لكنها تبدو أكثر ارتباكاً من أن تنتج رؤية ثقافية واضحة، وقد تكون أكثر تشدداً في بعض المواضيع من الرقيب القديم ذاته".
ويُحذّر أحمد من التمدد الهادئ لـ"العقل السلفي المتشدد"، الذي لا يُهدد فقط حرية النشر، بل مفهوم الثقافة ذاته:"من يُحطّم الآلات الموسيقية، ويروج للقصيدة العمودية بوصفها الشكل الوحيد المقبول، ويهاجم المفاهيم العلمية البديهية كالنظرية الداروينية، لن يتسامح مع كتاب يُعيد التفكير في المقدس. نحن لا نعيش في لحظة تحرر فعلي، بل في حالة من الغرق المجتمعي، والكتاب لا ينجو في مجتمع غريق".
الرقابة بالتجاهل: الشكل الأخطر للمنع
أما الكاتب مثنى علي إسماعيل فيرصد وجهاً آخر للأزمة: الرقابة الصامتة. وهو المصطلح الذي يستخدمه لوصف تجربته مع محاولة نشر مخطوطه في سوريا. يقول لـ"النهار":"أرسلت كتابي إلى دار نشر سورية، وانتظرت شهرين كاملين، ثم علمت أن الرقابة لم تقرأ الكتاب أصلًا. لا كتابي ولا غيره. أكوام من الكتب متراكمة من دون أي معالجة أو ردّ، وكأن الثقافة لم تعد من أولويات أحد".
ويضيف إسماعيل:"ربما يكون هذا التجاهل أخطر من المنع المباشر، لأنه يُفرغ الفعل الثقافي من جدواه، كما أن هذا الشكل الرمادي من الرقابة قد يُمهّد لاحقاً لرفض أي عمل لا يتماشى مع فكر الحكومة الجديدة أو سلطات الواقع، مما قد يدفع الكتّاب مجدداً للهرب إلى خارج سوريا، بحثاً عن حريتهم". ويختم بتحذير صريح: "نحن مهددون بالانتقال من كبت إلى كبت، ومن نير إلى نير، من دون أن نشعر".
حرية معلّقة بين سلطتين
تكشف هذه الشهادات الثلاث عن صورة مركّبة لا يمكن حصرها في ثنائية "نهاية الرقابة" أو "انتصار الحرية"، فثمة حرية ما، نعم، لكنها حرية معلّقة بين الخوف القديم وفراغ المؤسسات، بين العقل المنفتح عند بعض الناشرين، وتشدّد السلطة أو المجتمع عند بعضهم الآخر. وبين كاتب يؤمن بالمسؤولية الفنية، وآخر يعاني من الصمت الرسمي، وثالث يتوجس من ذهنية قمعية تتخفى خلف خطاب ديني أو وطني.
إن حرية النشر، كما تتبدّى في سوريا اليوم، لا تقاس فقط بغياب الرقيب، بل بوجود مؤسسات نقدية، ومساحات حوار، وآليات توزيع، وقارئ يستطيع أن يختار ويجادل. وكل ذلك لا يزال هشاً في بلد خرج من حرب طويلة، ويعيش على وقع الانقسام واللايقين.
وهنا يبرز السؤال المفتوح، الذي لا بد من أن يُطرح: هل يملك المشهد الثقافي السوري القدرة على بناء حرية نشر حقيقية أم أن الرقابة سيُعاد إنتاجها بأدوات جديدة، تتراوح ما بين التجاهل، والامتثال، والتشدّد الاجتماعي؟
الجواب لا يتعلق بالرقابة وحدها، بل بما إذا كانت الثقافة نفسها ستصبح جزءاً من مشروع إعادة بناء المجتمع، أو ستُركن مجدداً في زاوية الترف، والريبة، والصمت.
0 تعليق