نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
دفاعًا عن النقد المتحيز والأحكام المطلقة - بوابة الكويت, اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025 05:51 مساءً
بوابة الكويت - محمد سعيد احجيوج*
تهيمن على الوسط الثقافي توجهات تريد أن تضع النقد الأدبي، وتسيجه، في إطار وهمي من الموضوعية المطلقة، وتطالبه بالابتعاد التام عن إصدار الأحكام الحاسمة أو اتخاذ مواقف واضحة وصريحة. بل إن البعض يذهب في هذا التوجه المثالي، المدفوع بخوف دفين من النقد، إلى حد اعتبار أن وظيفة النقد يجب أن تقتصر حصريًا على الاحتفاء بالنصوص الجيدة والترويج لها، وأن تتجاهل، وتغض الطرف عن، الأعمال الرديئة والمتواضعة، كأن النقد مؤسسة دعائية مهمتها الاحتفاء بالكاتب وليس الكشف عن الحقائق الفنية، ومحاورة النصوص الأدبية.
إن هذا التصور للعملية النقدية، في تقديري الشخصي، ليس مجرد تصور خاطئ أو غير سليم فحسب، بل هو تصور خطير ومدمر يُفرغ العملية النقدية من جوهرها الحقيقي ووظيفتها الأساسية، ويحولها من فعل اكتشاف حي ومتوهج إلى مجرد تمرين أكاديمي عقيم أو طقس اجتماعي للمجاملة وتبادل المديح، لا يخدم في النهاية لا الأدب ولا القارئ ولا الثقافة بشكل عام.
إن أي عملية تواصل حقيقية وأصيلة بين الناقد والنص الأدبي يحكمها بالضرورة اختيارٌ ذاتي، واعٍ أو غير واع، ودافع شخصي عميق ومعقد. الناقد الحقيقي ليس مجرد مراقب محايد وبارد يقف خارج حدود النص الأدبي ومنطقه الداخلي ليسجل ملاحظاته التقنية ببرود العالم في مختبره البحثي، دون أن يكون له موقف أو رؤية أو مشاعر تجاه ما يقرأ. على العكس تمامًا من هذا التصور الساذج، الذي يجد مبرراته كما قلت في مقال سابق في خوف الكاتب العربي من النقد، إن القراءة النقدية الأصيلة والحقيقية هي فعل اقتحام عنيف ومباشر، واشتباك عميق وشخصي؛ هي حوار متوتر وصراع بين عالمين فكريين وجماليين، وهي أيضا رقصة تتشابك فيها روح الناقد الحية مع روح النص النابضة، فلا يعود ممكنًا في النهاية الفصل بينهما أو تحديد أين تنتهي حدود الواحد وتبدأ حدود الآخر.
هذا التداخل العميق والتشابك بين الناقد والنص، والذي قد يفزع أنصار الموضوعية المطلقة ودعاة الحياد الزائف، ليس عيبًا منهجيًا يجب أن يُستر أو خطأ تقنيًا يجب تجنبه، بل هو على العكس تمامًا شرط أساسي وضروري للإبداع النقدي الحقيقي ومصدر حيويته وقوته التأثيرية. فالنقد الذي لا ينبع من اشتباك حقيقي وتفاعل عميق هو نقد ميت بالضرورة، مهما كان دقيقًا في تحليلاته التقنية أو موضوعيًا في منهجيته الظاهرية.
من هذا المنطلق، فإن الأحكام المطلقة والواضحة التي يهاجمها أنصار النقد المهادن والموضوعية الزائفة، باعتبارها تجاوزًا غير مبرر وخروجًا عن حدود الأدب في السلوك النقدي، ليست خطيئة فكرية أو انحرافًا منهجيًا يجب إدانته وتجنبه، بل هي على العكس ضرورة حيوية تنبض بالحياة والصدق والأصالة. إن هذه الأحكام الواضحة والصريحة تعكس موقفًا حقيقيًا وصادقًا من الناقد، وتعبّر عن رؤية غير مُقنّعة وغير مداهنة للواقع الأدبي كما يراه ويفهمه ويتفاعل معه.
الكاتب والروائي المغربي محمد سعيد احجيوج.
إن النقد الذي يهرب من إصدار الأحكام الواضحة والمواقف الصريحة، ويختبئ وراء حجج الموضوعية والحياد المزعوم، هو في الحقيقة نقد يخشى المواجهة الحقيقية مع النص والمجتمع على حد سواء. في زمن الاستهلاك الثقافي السريع والسطحي، وهيمنة ما يمكن تسميته بـ "نصوص الدوبامين" التي تهدف أساسًا إلى إرضاء القارئ وتدليله بدلًا من تحديه فكريًا وجماليًا، يصبح النقد المهادن والمتساهل شريكًا فعليًا في تكريس الرداءة الأدبية والثقافية وترسيخها في المشهد العام.
الحقيقة الصعبة التي يجب مواجهتها بصراحة ووضوح هي أن الموضوعية المطلقة في قراءة الأدب وتقييمه ليست إلا وهمًا أخاذًا ومريحًا، وخدعة فكرية نخدع بها أنفسنا لنشعر بأننا نمارس عملًا علميًا محايدًا. أما محاولات "التنسيب"، أو التخصيص، غير المجدية، التي تهرب من الأحكام العامة، فهي لا تفعل في النهاية سوى أنها تقيد النقد وتشله، كما تقيد الأغلال الثقيلة الطائر الجميل عن التحليق الحر في فضاءات الاكتشاف والإبداع، وذلك لسبب بسيط ومنطقي: الإحاطة التامة والشاملة بأي موضوع أو ظاهرة ثقافية أو إنتاج ثقافي هي مستحيلة تماما، والتعميم ضرورة لغوية ومنطقية لا مفر منها في أي خطاب إنساني.
إن الحقيقة ذاتها، كما أشرت في مقالات سابقة وفي رواياتي كذلك، ليست كيانًا ثابتًا وجامدًا ومطلقًا. إذا كانت الحقيقة في الحياة الواقعية والملموسة بهذا القدر الهائل من المراوغة والسيولة والتعقيد، فكيف نطالب النقد الأدبي، وهو فعل إنساني ذاتي بامتياز، بأن يكون صخرة صماء وثابتة من الموضوعية المطلقة والحياد الميت؟
المشكلة الحقيقية والجوهرية لا تكمن في حضور الذاتية في العملية النقدية، أو في إصدار الأحكام المطلقة والمواقف الواضحة، بل تكمن في نوع آخر ومختلف تمامًا من المشاكل: إنها تكمن في الثقة العمياء والمطلقة، في تلك الذاتية المتعالية والمغرورة التي تدّعي امتلاك الحقيقة النهائية والكاملة ولا تقبل بأي شكل من الأشكال الانفتاح على حوار حقيقي أو مساءلة جدية لمواقفها وأحكامها. الخطر الحقيقي والمدمر ليس في الناقد الذي ينطلق بصراحة ووضوح من رؤية شخصية ومحددة، ويعلن عن موقفه بشجاعة ووضوح، بل في الناقد المتعجرف والمغلق الذي يعتبر رؤيته الخاصة والمحدودة هي الحقيقة الوحيدة والمطلقة في الكون، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
لهذا السبب تحديدًا، فإن النقد الأصيل والحقيقي في جوهره العميق هو النقد المتحيز الصادق الذي يعي تحيزه ولا يخجل منه، ويعترف به بصراحة ووضوح، ويبني عليه موقفًا فكريًا وجماليًا واضحًا وشجاعًا، دون أن يدعي العصمة أو الكمال أو امتلاك الحقيقة المطلقة. الناقد الحقيقي والأصيل لا يخشى أبدًا أن يقول بوضوح ومباشرة: "هذا العمل الأدبي رديء ولا يستحق الاهتمام" أو "هذا الكاتب يرتكب أخطاء الهواة المبتدئين ويحتاج لتطوير أدواته"، لأنه يرى في هذا الموقف الواضح والصريح مسؤولية أخلاقية ومهنية تجاه الفن وتجاه القارئ، وقبل ذلك كله، تجاه نفسه.
أما النقد الذي يتوارى باستمرار خلف قناع الحياد الزائف والموضوعية المدعاة، ويمسك العصا دائمًا من المنتصف، ويرفض اتخاذ أي موقف واضح أو إصدار أي حكم صريح، خوفًا من اتهامات عدم الموضوعية أو التحيز، فهو في الحقيقة نقد تلفيقي وانتهازي لا يقول شيئًا ذا معنى أو قيمة، ولا يترك أثرًا حقيقيًا في الوعي الثقافي، ويساهم في نهاية المطاف، وبشكل مباشر وفعال، في تعويم المشهد الأدبي برمته وتشويهه، حيث يختلط الغث بالسمين دون تمييز واضح، وتضيع البوصلة الجمالية والفكرية، ويفقد القارئ العادي قدرته على التمييز بين الجيد والرديء، بين الأصيل والمزيف، بين المبدع الحقيقي والمدعي الزائف.
إن النقد الحقيقي والفعال يجب أن يكون صداميًا بطبيعته وشجاعًا في مواقفه، لا يخشى المواجهة أو الجدل أو حتى العداوات المهنية التي قد تنتج عن صراحته وصدقه. النقد الحقيقي والأصيل يولد دائمًا من التزاوج العاصف والمتوتر بين النص الأدبي بكل تعقيداته وروح الناقد بكل تحيزاته الواعية، ومن هذا الصدام الخلاق والمثمر تتولد الحقائق الجديدة والرؤى المبتكرة، وليس من الحياد المزيف والمريح الذي يخشى أن يقول كلمته صريحة وواضحة، خوفًا من اتهامات التحيز أو عدم الموضوعية التي أصبحت السلاح المفضل لأعداء النقد الجاد وأنصار الثقافة الاستهلاكية السطحية والكتاب أنصاف المواهب.
* روائي مغربي حائز على جوائز أدبية، ومؤلف لروايات بارزة مثل "كافكا في طنجة"، "أحجية إدمون عمران المالح"، "متاهة الأوهام"، و"ليل طنجة". تتميز أعماله باستكشاف الهوية والذاكرة وآليات الهيمنة، والغوص عميقًا في ثيمات غير مألوفة في الأدب العربي، بأسلوب سردي مبتكر. تُرجمت نصوصه إلى عدة لغات وحازت على تقدير نقدي وأكاديمي واسع.
0 تعليق