هل الإعلام اللبناني سلطة؟ - بوابة الكويت

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
هل الإعلام اللبناني سلطة؟ - بوابة الكويت, اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025 04:58 صباحاً

بوابة الكويت - الدكتور جورج كلّاس*

 

 هل الإعلام اللبناني سلطة؟ إنه سؤال المرحلة الذي يفرض حضوره عند بروز أزمات ونشوء نزاعات بين المكونات السياسية، التي تمتلك إعلاماً خاصاً بها ويشكل بنية كيانيتها.

 

إن رسوخية الإعلام اللبناني ودوره في إقامة العدالة التوازنية بين السلطات الدستورية، إضافة إلى ميزة وعمقيّة تلازم مساره مع رصيد عريق من الحرية، وامتلاكه الشخصية المعنوية المؤثرة في الحياة السياسية وشعاعية حضوره المعرفي، تؤكّد أن الفعل التأثيري للإعلام في المجتمع اللبناني يتظهَّر كسلطة مضاربة، أكثر منه سلطةً رقابية وحضارية مشاركة، تجهد لتوظيف قدراتها في عملية ترسيم حدود صلاحياتها المعنوية ودورها الفكري والنقدي، وتحرص لتثبيت كيانية السلطة الإعلامية كشريك للسلطات الدستورية في صناعة المعرفة الخالصة ومعيارية استثمار دورها، في مجتمع تتغلب فيه المصلحة الخاصة على الحق العام، في ظروف كثيرة التحوّلات ومتعددة الاتجاهات.

 

من هذه التوازنية التفاضلية بين الإعلام كسلطة معرفية، وطموحه لأن يكون سلطة مضاربة، يمكن التوفيق بين كفّتَيْ ميزان الواقعية الإعلامية، انطلاقاً من التمييز بين واجب الالتزام والقدرة على المناورة.

 

تنطلق تحديات هذا المفهوم الوضعي والعملي للإعلام الوطني من ثلاثية قيم ترتكز أساساً على تحديد موقعه ودوره ووظيفته المرافقة لكل بداية عهد رئاسي جديد.

 

غير أن التحدي الأول للإعلام يبرز عندما يتأرجح  بخياراته، بين أن يكون إعلاماً للعهد أو أن يكون إعلاماً للوطن. فمع كل تجديد للسلطة، تتزايد تأثيرات الإعلام الداخلي وانعكاساته على رصيد المؤسسة الإعلامية والإعلامي، خصوصاً عند انتخاب رئيس وبداية عهد جديد، بحيث يُحَمِّلُ البعضُ احتفاليةَ الانتخاب الكثير من الآمال والتطلعات والأماني، بعضها ينمّ عن صدقية وحرص على الواقعية السياسية، وبعض آخر يعتمد استراتيجية رهن القلم وتوظيف اللسان لخدمة مصالحه الآنية، والإمعان بالمراوغة والمهادنة ومحاولة الالتحاق بالحاشية وفريق العمل العامل في دوائر القرار، وأن يكون مقرّباً من موقع السلطة، بهدف تسليع المواقف وبيعها واستثمارها والبقاء في دائرة القرار والاهتمام والتأثير. 

 

وتقويماً للاستراتيجيات الإعلامية المتبعة تقليدياً، على مدى الممارسات الإعلامية في خلال مواكبة التقلبات وانتقال السلطة، يصح التساؤل بنيوياً، هل الاحتفاليات الإعلامية التي تسبق وترافق العهود الرئاسية والولايات الحكومية في بداياتها، هي لخدمة العهد أم لخدمة الوطن؟ أم هي لخدمة الوسيلة الإعلامية وزيادة تأثيرها، كشريك مضارب في صناعة السلطة واستثمار مرافقها؟ ووفق أيّ منهجية توضع أسس لاعتماد خطط ولائية للإعلام من دون عَسْكَرته، مع الحفاظ على جهوزية تحوُّله إلى سلاح استراتيجي، مع ما يستوجبُ ذلك من عقيدة وطنية تكون بمثابة السلاح الإعلامي الأكثر دقة وتوظيفاً في خدمة الوطن؟  

 

لئلا تضيع الفرحة بانتخاب رئيس للجمهورية، وتنتهي البهجة بتشكيل حكومة جديدة ويختلّ التوازن المعرفي عند الناس، بين إعلام الترحيب والتهليل وإعلام الإنكار والتدجيل، وإعلام الموضوعية الوطنية، تخلص الأمور بالغالب إلى الوقوع في التضليل، لكثرة ما ينتهجه بعض الإعلام من مخططات ومواربات تتحرّك وفق آليات مصلحية تخدم الأبواق والمنصات والمنابر، من دون أن تقدم أي نفعٍ للحقيقة، بل إنها تمعن في تسعير البلبلة وتضييع البوصلَةِ وتشويه رسولية تقصي الحقائق وفنّية كشفها ومسؤولية إعلانها، لكثرة ما يخالط تحرّكها وتخبّطها من مبايعات، ويشيع فيها من مدحيات، وتحفل به من تعظيم أوصاف وتكبير أدوار، لم يطلبها رئيس ولا خطرت على بال مسؤول. 

نصيب أي عهد جديد أو حكومة جديدة أن يحظيا بمتابعات إعلامية وبتقدير إعلاميين كبار يدركون أن الإعلام الواعي هو "الإعلام التقويمي" الذي يقوم بوظيفة المستشار المعاكس الذي يسلط على الهنات ويلفت إلى أخطاء ويضيء على إنجازات ويشجع على الإصلاح والتطوير والخدمة الدستورية وتنمية المعارف وتعزيز المواطنة، شعوراً وانتماءً والتزامات، ويبادر إلى الطرح وتقديم المشورات كلما استوجب الأمر ذلك. 

 

 أما "الإعلام التهليلي"، فيواظب على رفع شعارات التمجيد وما يستتبع ذلك من بروتوكولات لفظية ومحاولات تقديم أوراق اعتماد غبّ الطلب للالتحاق بديوانية السلطة، فيفقد دوره ويأفل وهجه ويستحيل عبئاً على العهد والحكومة والوسيلة الإعلامية، فيؤذي صدقية الإعلام وينال من شرفيّة المهنة ويحدُّ من حياديتها ورساليتها. 

والاقترافات الإعلامية المسبقة، التي قد تلحق بأي عهد جديد، تكمن في سلوكات بعض الإعلاميين الذين يناورون للتكسّب والاسترزاق عن طريق المبايعات، فيستحيلون مرتزقة أقلام ومساحات للعرض وللاستثمار الإعلامي. وهذا ما يوجب ضبطه وإخضاعه لقانون الجودة الإعلامية ومقاساة الخدمة الوطنية والمعرفية التي يحققها إعلام المعرفة، الذي لا يبغي الربح.

فمسؤولية الإعلام الإيجابي، تكون مع بداية كل عهد، في مدى الالتزام بالجدية والرصانة وحذاقة الدور وعمق الرؤية، المطلوب توافرها في الصناعة الخبرية المتوازنة، بمعناها التقويمي والنقدي والتصويبي، ومن أولى مهام هذا الإعلام أن يكون مستشاراً موضوعياً وناقداً رصيناً، لا مناصراً صفّيقاً.

 

والسؤال المحوري في هذا السياق هو كيفية التمييز بين إعلام الولاء الثابت وإعلام المصالح المتحرِّك، انطلاقاً من المبادئ، وصولاً إلى المواقف وصياغة الانتظارات؟ ومَنْ يرسم الاستراتيجية الإعلامية للعهد والسلطة؟

 

وهذا ما يفرض على الإعلام الموالي الالتزام بتوجُّهاتٍ واضحة قادرة على أن تؤدي الخدمة الإعلامية الفضلى للعهد، بما يتوافق والمبادئ التي ارتكز عليها في خطاب القسم الدستوري، واعتمدها أساساً لبرنامج عمله المنوي تنفيذه في خلال مسيرة عهده، وليس حكمه، من دون أن يرافق ذلك أي إغراقات في تضخيم الآمال وتعظيم الدور، بل التركيز على مبدئية الواقعية الإعلامية التي تشكل بمفاهيمها وأساسيات تفكيرها أركان الإعلام الواعي الصلب والرصين والقادر على تقديم حمايات إعلامية للعهد والحكم والحكومة والوطن.

 

هذه التحديات المهنية التي تواجه الإعلام والإعلاميين، مع بداية كل تجديد لدور ومفهوم ومراتب السلطة، وتنتظم احترافية العمل المؤسساتي والنقابي الناظم للمسؤوليات الإعلامية وتضعه أمام الالتزام بواجباته الوطنية والتقيّد بأخلاقيات المواثيق والشرع الإعلامية الضابطة للعمل الإعلامي، بكل فنونه وأنواعه ووظائفه وتجعله مادة نقاشية في تقويم عمل مؤسسات الدولة ونهج الحكومة، بما يُمكِّن المسؤولين من الارتكاز والاحتكام على حرفية الإعلام الرصين، لفهم مسار مستوى الثقة الشعبية بالحكم ومعرفة الانتظارات التي يأمل المواطنون تحقيقها، في إطار المعقولية والواقعية، وبعيداً عن صناعة الأوهام وتركيب الأحلام.

 

وإذا ما انتظمت عملية التكامل بالمسؤوليات بين السلطة الإعلامية، كجهاز استشاري للعهد والدولة وبين أركان الحكومة كجهاز تنفيذي للسلطة الإجرائية، إذاك تنجح العملية الإعلامية بأن تكون عنصراً مساعداً يُبنى على تحليلاته في تقديم خدمة واقعية للعهد والناس والوطن بكل تشكيلاته السياسيّة وتنويعاته المجتمعية، وبأن يكون الإعلام سلطة رصد وتحقق ومتابعة يفيد المجتمع من خدماتها وخبراتها، وتقدم نفعاً معرفياً للوطن والمواطن والعهد والموالاة والمعارضة، كما لتلك الفئة المترددة بالسعي للجهر بالحَقِّ جبناً أو تخاذلاً أو اقتناص فرص.

فالمهمة الوطنية للإعلام السيادي هي مسؤولية تحويل المجهولات إلى معلومات، وأن يكون إعلامَ تذكير وتنبيه وبياناً فكرياً للدفاع عن الحق ورعاية الاعتدال والحرص على مبادئ الاتزان والتوازن والمعقولية والواقعية في التصدي للأمور وتناولها بالتحليل بهدوء ورويّة، إضافةً إلى استخدام مصطلحات موزونة غير قابلة للتأويل ولا للتحوير والتبديل، لأن الإعلام الذي يستحقه العهد، وهو الإعلام الذي تستوجبه المواطنة وتنتظره الأجيال المتطلعة إلى توسيع الآفاق وتحقيق الأحلام وتجسيد الرؤى. فالإعلام كسلطة معنوية لها فعلها وموقعها في المجتمعات الديموقراطية، لا يسعى لأن يكون سلطة مضاربة، بل يعمل وفق مفهوم تكاملية الأدوار بين السلطات، مع احترام واسع لناموس السلطة الخامسة، كسلطة رأي عام واعٍ ومفكّر، وذات مقاميَّة محترمة في رتبيَّة السلطات وهرمية تراتبيتها.

*وزير سابق

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق