نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من المواجهة العسكرية إلى زلزال القوميات... قراءة في استراتيجية تغيير النظام الإيراني - بوابة الكويت, اليوم الخميس 3 يوليو 2025 04:09 مساءً
بوابة الكويت - الدكتور خالد الحاج
يتغير كل شيء حين تفقد الأنظمة قدرتها على احتواء التناقضات التي نشأت داخلها.فليس الخارج هو الذي يُسقط نظامًا متماسكًا، بل تراكمات متجاهلة، كامنة، تتكاثر حتى تنفجر. إيران، بتجربتها الأيديولوجية المتماسكة، ومؤسساتها الأمنية والاقتصادية المتشابكة، ليست استثناء. لا شك أن النظام الإيراني قوي، تحرسه طبقة دينية وعسكرية واجتماعية واقتصادية مترابطة، ويستند إلى شرعية ثورية تأسست منذ 1979.
لكنه في الواقع يقوم على معادلة دقيقة تجمع بين الأيديولوجيا والسيطرة المركزية على دولة متعددة الهويات والانتماءات. على مدى العقود الماضية، بنت الجمهورية الإسلامية لنفسها قدرة على التمدد الإقليمي، مستفيدة من شعارات المقاومة والصراع مع الغرب. تحوّل الحرس الثوري إلى عملاق أمني واقتصادي يملك مفاصل الدولة وممرات المال والنفط والسلاح، داخل إيران وخارجها. لكن هذا الاستقرار الظاهري يخفي هدوءًا هشًا، تحته تفاعلات عميقة، وعلى رأسها قضية القوميات غير الفارسية التي تعيش على هامش الدولة.
القومية الأذربيجانية تمثل بُعدًا خاصًا في هذه المعادلة. ليست فقط ثاني أكبر قومية بعد الفرس، ولا لأنها تمتلك ثقلًا بشريًا وجغرافيًا يمتد من الشمال الغربي إلى قلب العاصمة، بل لأنها قومية ينتمي إليها المرشد الأعلى نفسه، علي خامنئي. المفارقة أن هذا الانتماء لم يمنح الأذريين نفوذًا حقيقيًا في السلطة، بل ظلوا مهمشين مثل الأكراد والعرب والبلوش. ومع ذلك، قد تفتح التطورات الإقليمية الأخيرة، خاصة بعد الهجوم الإسرائيلي، بابًا جديدًا لتحرك هذه القومية، يتجاوز الإطار الداخلي الإيراني. ورغم كون الأذريين في إيران شيعة إثني عشريين، تمامًا كالغالبية الفارسية، إلا أن الهوية القومية ليست دائمًا خاضعة للهوية الدينية، بل تتقدّمها أحيانًا خاصة عند الإحساس بالتمييز أو التهميش. علم النفس الاجتماعي والأنثروبولوجيا السياسية يبيّنان أن الإنسان حين يُمنَع من التعبير عن هويته الثقافية واللغوية والتاريخية، يميل للانتماء رغم الخطاب الرسمي حول "وحدة الأمة الشيعية"، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تُدار فعليًا من قبل نخب فارسيّة اللغة والثقافة، وتهمّش غير الفرس.
حتى علي خامنئي نفسه، رغم أصوله الأذرية، يتحدث بالفارسية، ولا يُشار إلى قوميته. وللتوضيح أكثر بان في مناطق الأذريين كـ"تبريز" وأردبيل، يُمنع التعليم باللغة الأذرية. ولا توجد مراكز ثقافية أو إعلامية قوية تعبّر عن الهوية القومية الأذرية. والاهم أن النخب الأمنية الكبرى (في الحرس الثوري ومفاصل الدولة الامنية) فارسية بنسبة ساحقة. هذا ما يخلق تضادًا داخليًا بين شيعية الفرد الأذري وانتمائه القومي، ويدفعه إلى التفكير في "وطن قومي" كأذربيجان التي تتحدث لغته وتحتضن هويته. لما هو أقرب إليه وجدانيًا وثقافيًا — أي القومية، لا العقيدة.
العقل الإسرائيلي يعتبر وجود ترامب اليوم فرصة تاريخية لتقويض النظام الإيراني واحتوائه عبر سياسات ضغط صارمة، إذ يعتقد أن إدارته أكثر تشددًا تجاه طهران. في المقابل، فإن وصول رئيس أمريكي مستقبلا يتبنى سياسات شبيهة بأوباما يعني كارثة استراتيجية لإسرائيل، إذ يمنح إيران فسحة أوسع لتعزيز نفوذها، مما يدفع تل أبيب إلى التركيز على استهداف البنية الداخلية للنظام الإيراني، سعياً لإضعافه وإحداث تصدعات قد تؤدي إلى تغيير جذري. في هذا السياق، يصبح الحديث عن تغيير النظام الإيراني – الذي طالما بدا هدفًا بعيدًا – مطروحًا ضمنيًا في تفكير المؤسسات الإسرائيلية. ليس كخيار عسكري كلاسيكي (كالاجتياح أو الاحتلال)، بل كمسار تراكمي يبنى عبر إنهاك أمني، اختراق قومي، تأليب داخلي، وحصار اقتصادي وتقني خانق. وهنا يبرز البُعد القومي، وتحديدًا القومية الأذرية، كمدخل مرن لزعزعة الداخل. إيران ليست دولة–أمة واحدة، بل فسيفساء من الهويات تمسكها قبضة مركزية صلبة. وإذا تراجعت هذه القبضة ولو نسبيًا، فإن أول من يتحرك هو الطرف القومي الذي يمتلك امتدادًا جغرافيًا دوليًا مباشرًا، وهذا ما يتوفر حصرًا للقومية الأذرية.
أذربيجان، التي تحولت إلى منصة متقدمة للأمن الإسرائيلي والاستخبارات الغربية، لا تخفي رغبتها في استثمار اللحظة. التحالف مع تل أبيب ليس ظرفيًا، بل بنيوي، ويقوم على تبادل مصالح في ملفات الطاقة والأمن والاستخبارات. تشيرالتسريبات الروسية إلى نشاط إسرائيلي واسع انطلق من الأراضي الأذرية خلال الجولة الأخيرة من التصعيد. هذا لا يعني فقط دعمًا لوجستيًا، بل تنسيقًا سياسيًا طويل الأمد، يفتح الباب لتحولات كبرى على حدود إيران الشمالية الغربية.
أما بالنسبة لروسيا، فإن ما يحدث لا يُقرأ فقط من زاوية الحرب، بل من زاوية الجغرافيا السياسية. أي خلخلة داخل إيران، خاصة عبر المدخل الأذري، تعني زلزالًا على حدودها الجنوبية وممرًا مفتوحًا لاختراق المجال الأوراسي. لذلك، التوتر بين أذربيجان وروسيا، وتصاعد الصراع الأمني والدبلوماسي بينهما هذه الأيام، لا يمكن عزله عن المشهد الإيراني. فكلما ازداد نفوذ باكو وتحالفت أكثر مع إسرائيل وأوكرانيا، بدا أن أذربيجان تتحول إلى قاعدة سياسية وأمنية تشكل منصة ضغط على طهران. وإذا كانت القومية الأذرية خارج إيران تتقدم بخطى ثابتة نحو التمكين الجيوسياسي، فمن المتوقع أن تنعكس هذه الحركة داخل إيران، عبر بث الحماسة وفتح الباب أمام خطاب قومي يشجع الأقليات الأخرى على التحرك.
تحرك القومية الأذرية داخل إيران، إن بدأ، سيكون مختلفًا عن باقي القوميات؛ إذ يمتلك الأذريون الكثافة والموارد والانتماء الرمزي الذي قد يفجر معادلة الولاء للنظام نفسه.
في النهاية، لا وجود لما يسمى "نظام لا يسقط". إيران اليوم تبدو قوية ظاهريًا، لكنها تقف فوق شبكة من التناقضات: قوميات ناقمة، اقتصاد مأزوم، جيل شاب يبتعد عن السلطة، واصطفافات إقليمية متبدلة. أي صدمة أمنية، داخلية أو حدودية، قد تفتح الباب لمسار تصدع بطيء، لا انهيار فجائي. سيكون التحول متدرجًا، يبدأ بتحرك قومي أو احتجاج اقتصادي، ثم يتطور.
0 تعليق