التصميم الهندسي ومساهمته في تحسين العنصر النّفسي - بوابة الكويت

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
التصميم الهندسي ومساهمته في تحسين العنصر النّفسي - بوابة الكويت, اليوم الأربعاء 2 يوليو 2025 04:39 مساءً

بوابة الكويت - ماريا أ. الحلو*

 

 

كنّا مجموعةً من المعماريين الّذين رأوا أن التركيز اليوم على تصميم المدينة والعمارة والتّصميم الدّاخلي يجب ألّا تقتصر فقط على تأمين العناصر المرئيّة الّتي تساهم في تحسين الصّحة الجسديّة وما يتبع هذا التّصميم من زيادة في إنتاجيّة المدينة وتحسين العلاقات الاجتماعيّة وتأمين الغرف، بل كنّا مقتنعين بأنّ التّصميم المدنيّ والهندسيّ له دورٌ أساسيّ بالمساهمة في الحدّ من عوارض العديد من الحالات النفسيّة، وخاصّةً في المدن التي شهدت كوارث وتلك التي تغيّرت واجهاتها فجأةً جرّاء دمارٍ أو إعمار سريع أو إعادة إعمار لا يصل حاضر المدينة بماضيها.

 

لذلك، عملنا كفريقٍ من مهندسين متواجدين في أنحاء العالم على تطوير اختصاص الهندسة المعماريّة وعلم الأعصاب، حيث درسنا ولا نزال ندرس ونطوّر أبحاثنا الّتي تتناول علاقة التصميم المدني والهندسيّ بزيادة أو تخفيض العوارض النفسية والجسديّة والّتي تؤكّد فرضيّتنا. وقد تعاونّا ولا نزال نتعاون مع أخصائيين وأطبّاء نفسيين وعلماء أعصاب للتخفيف من الأعراض النفسيّة من خلال التصاميم لمدينةٍ أو سكّانٍ محدّدين، بحسب وضع كلّ مدينةٍ وحالات سكّانها.

وهذا العمل الهندسي مهم جداً في بيروت، مثلاً. فوحده اضطراب ما بعد الصّدمة منتشرٌ كثيراً فيها، هذا عدا عن حالات نفسيّة أخرى ناتجة عن عدّة عوامل، منها المحلية ومنها العالميّة المؤثّرة على تصميم المدينة وتفاعل السّكّان مع التصاميم الجديدة والمسبّب صدماتٍ ولو في اللّاوعي. فبحسب شبوح وفهد (2022)، اللّذين درسا حالة اضطراب ما بعد الصدمة في بيروت بعد 6 أشهر من انفجار مرفأ بيروت في 4 آب / أغسطس 2020، فمن بين 322 مشاركاً في دراستهم، كان 75.8% مصابين باضطراب ما بعد الصدمة، منهم 48.8% حالتهم شديدة، علماً بأنّه في لبنان عامّة، فإنّ حالات عدم الاستقرار وعدم تأمين البيئة المبنيّة الملائمة للحاجات اليوميّة أدّت إلى خلق صدمة جماعية ووضع ملايين اللبنانيين في خطر كبير للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة. كما أنّه أصبح من السّهل لهم إيجاد حلّ لأنفسهم في تناول المهدّئات بدل المعالجة الجذريّة: فبحسب الطبيبة النفسيّة الدكتورة هناء عازار، فإنّه في سنة 2021، 70 إلى 80 في المئة من اللّبنانيّين تناولوا المهدئات.

 

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ حالة اضطراب ما بعد الصدمة لدى الأفراد تختلف في مدّتها، وتشمل من بين عوارضها تجنّب الأماكن والذّكريات المرتبطة بالأحداث الصّادمة وفقدان الاهتمام بالعلاقات أو النشاطات المرتبطة بهذه الأماكن والّتي كانوا يمارسونها قبل حدوث الصّدمة. ومن هنا نستطيع أن نلاحظ التّفكّك التّدريجي في عناصر المدينة الّتي كانت يوماً ما مترابطة، ممّا يسبّب بالابتعاد التّدريجي بين السّكان إلى حدّ الوصول إلى رؤية مدينةٍ مكوّنة من عدّة عناصر، لكن لا تشكّل نسيجاً واحداً.

وقد التقيت شخصياً ببيارتة لا يزالون يختبرون آثار صدماتٍ تعرّضوا لها نتيجة الحروب والانفجارات الّتي تتالت عليهم على مرّ السّنين: فبالرّغم من وجوههم البشوشة ونجاحهم المهني ولبسهم الأنيق، فهناك من ينزوي ويعيش بحزنٍ وعدم راحة في منزله حتى اليوم لأنّه يربطه بذكرياتٍ مؤلمة من الحروب وأصواتٍ سمعها تذكّره بشعور الخطر. كما أنّ هناك من يعوّض آثار هذه الصّدمات عليه بفرط الحركة أو السّهر خارجًا لئلّا يعود إلى بيته إلّا منهكًا؛ فلا يشعر بالعوارض عند رؤية غرفٍ أو مفروشات استعملها عندما كان يعيش خطر القذائف والتنقّل خارجاً ولا يشعر بحزنه على مرور سنين حياته دون عيشها كما يريد، كما أنّه يتجنّب رؤية تفاصيل في البيت تذكّره بأفرادٍ رحلوا ضحايا قتالٍ لا ذنب لهم فيه. وهذا التهرّب يصبح عادةً تؤدّي إلى حالات إرهاقٍ وظهور أمراض عديدة.

لذلك، فإنّ المهندسين المتخصّصين في هذا المجال يعملون اليوم على الاستماع إلى السّكان المعنيّين الّذين يربطون بعض الأماكن العامّة والخاصّة بالصّدمة وبمشاعر الخطر أو بعدم الرّاحة؛ فمن المهم العمل على التوفيق بين هؤلاء الأفراد ومساحاتهم العامة والخاصة، واستعادة الذاكرة الإيجابية التي كانت موجودة قبل وقوع الحدث الصادم.

زيادة على ذلك، إذا كان الشّخص أو سكّان المدينة لا يستطيعون وضع الكلمات على مشاعرهم لوصفها، بإمكان المهندسين المتخصّصين في هذا المجال، أو بالتّعاون مع علماء أعصاب من فحص المعنيّين، تصوير أدمغتهم بالرنين المغناطيسي الوظيفي وفحص ذبذبات أصواتهم ودقّات قلبهم، وذلك لمعرفة مناطق الدّماغ وردّات الفعل الجسديّة المحفّزة والمرتبطة بمشاعر معيّنة كالحزن أو الخوف أو القلق، ممّا يساعد أكثر على التّشخيص النّفسي وتنفيذ التّصميم الهندسي المساعد على تخفيض هذه العوارض.

 

*مهندسة. رائدة الهندسة المعمارية وعلم الأعصاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقي

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق