نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الهجرة.. رحلة البحث عن معنى جديد - بوابة الكويت, اليوم الاثنين 30 يونيو 2025 12:22 صباحاً
وأيًّا كان الحال فإن العرب قبل الهجرة، لم يتفقوا أو يتواطؤوا على حدث معين، يبدؤون منه حساب سنواتهم، ومرجع يؤرخون به حوادثهم، فلم يكون حرصهم على تعداد السنوات متساوقًا مع حرصهم على تسمية شهور العام نفسها، على اختلاف بائن بين القبائل ولك أن تعجب من ذلك، وتحاول أن تثير الأسئلة حول هذه الغفلة.
ألم تكن كل الأحداث التي شهدها العرب في تاريخهم قمينة بأن يشار إليها بتاريخ منضبط في تعداد السنوات، فلما بقيت هكذا معلقة في حسابات التقدير المستند إلى تقويم أمم أخرى؛ يونانية كانت أو رومانية أو عبرية، دون أن يتحرّك العقل العربي القديم لابتداع تاريخ يخصه!
إن هذه الحيرة تمتد معي إلى ما بعد البعثة المحمدية إذا لم يصحبها استناد تاريخي عربي ضابط لها، فميلاد النّبي، صلّى الله عليه وسلّم، مثلًا يشار إليه بحدث معروف، اصطلح عليه تاريخيًا بعام الفيل ويرجع إليه في التوصيف الحسابي بميلاد المسيح، عليه السلام، فمع تحديد اليوم والشهر بدقة تكاد تتفق عليها المراجع التاريخية (12 ربيع الأول)، إلا أنها تقف عند ذلك فقط، وتتجه في حساب العام إلى التقويم الغريغوري بتحديد اليوم والشهر والسنة: (24 سبتمبر 662م).. وعلى هذا مضت الأيام، وسؤالي حيالها يكبر، ألم تكن ثمة حاجة لتحديد حدث فارق ليمثل نقطة انطلاق لتعداد أعوام العرب والمسلمين؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال القلق لا تجد لها مفتاحًا إلا عندما تصل إلى عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، في حادثة أبرزت – ولأوّل مرة – الحاجة إلى تحديد العام في تدوين الأحداث والتفريق بينها.
فمما يروى أن خطابًا وصل إلى أبي موسى الأشعري، مؤرّخ في شعبان، دون تحديد لعام، فأرسله إلى الخليفة الفاروق مستفسرًا، ومبديًا ملاحظة في غاية الأهمية مفادها أن الرسائل والمكاتيب التي ترد أو تصدر مؤرخة بالأشهر دون ذكر السنوات، من شأنها أن تحدث خلطًا بيّنًا بينها، فجمع الفاروق الصحابة وبحثوا هذا «الإشكال» وتعددت المقترحات في بحثها عن «حدث» يمثل حجر الزاوية لمنطلق التاريخ لديهم، فمن رأى في تاريخ مولد الرسول البداية المثالية، ومن عارضه بيوم وفاته، ومن اقترح الاعتماد على تاريخ الفرس أو الروم على اعتباره الأسبق، وانتهت محصلة النقاش «الشّوري» إلى إقرار تاريخ الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة، مبتدأً للتاريخ، بحجة «عمرية» تجلّت فيها عبقريته، وبعد نظره؛ إذ قال، رضي الله عنه: «الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرّخوا بها».
وهنا مناط عظمة الاستناد إلى هذا الحدث، وجعله مركزًا لانطلاقة تاريخ محتشد بالأحداث العظام؛
لهذا أرى من الوجوب التوقّف والنظر إلى معنى «الهجرة»، ليس بوصفها حدثًا انقضى وترك أثره، ولكن باعتباره حدثًا مرتحلًا معنا في أحداث اليوم، لنفهم في مرآته الرسالة المضمرة في ثناياه، ومفادها أن «الاعتساف» ومضايقة الفكر والحَجْر عليه من الذيوع والانتشار أمر ليس جديدًا بأي حال من الأحوال. فالهجرة اقتضتها ظروف حجر لصوت الحق، وتعذيب طال المعتنقين بغير جريرة، وخوف من«الجديد»، وتأمين بائس لقديم موروث دون حجة «هذا ما وجدنا عليه آباءنا»، فلم يكن ثمة نجاة للفكرة إلا بهجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن آمن بها باكرًا، فاتخذ الصوت مركبًا، وصنعت الفكرة «جناحًا» واقترحت النفوس العظام الهجرة الميكانيكة ملاذًا وحلًا من ضوائق الحَجْر والاعتساف، فكان مكسب «الهجرة» أضعاف أضعاف خيبة «الحجر والاعتساف».
فهل في ذلك معنى يقرأ لمن بَصُر بالحكمة مقروءة في سطور التاريخ وحكمة الأيام مفادها أن لا «حَجْر» يفيد معتسفًا، كما أن الحرية غير المنضبطة لا تعين الفكرة على استيفاء شروط القبول في ثنايا الإقبال.
بهذا المعنى أرى أن لـ«الهجرة» اليوم في حاضرنا معنى آخر يأخذ طريقه إلى عميق ذات الإنسان نفسه، بحثًا عن جوهره الذي ضيّعه في متاهات ماديات الحياة، هجرة تتخذ التأمل مطية، والمحاسبة الذاتية حاديًا، والتمحيص في الأمور معراجًا للوصول، فكم من هجرة يحتاجها المرء الآن ليعبر تخوم الواقع المعيش، وسديم العالم الفوار، وصولًا إلى ترتيب فوضى العالم اليوم، دون الوقوع في مسالخ المنع الطاغوتي، ومزالق التحرر العبثي.. معادلة يحتاج ميزانها إلى حكمة نبي، وصبر عابد، وبصيرة عالم..
إن على من يحملون هموم «الدعوة» اليوم أن يدركوا جيدًا، أن «الهجرة» الميكانيكية غير ذات نفع في عالم أصبح رقعة في يد كل واحد، فعليهم أن يطوّروا من مفهومها، ويدركوا معانيها، ويُكْسبوا «الهجرة» معنى جديدًا يتسق مع واقع اليوم بكل ما يتيحه من وسائط القرب، وإمكانية الوصول والعبور بلا حاجة إلى انتقال، أو اضطرار لارتحال، فقط «هجرة» قادرة على الإقناع بمحتويات صادقة في مواعين الفضاء المفتوح.
كما أرى ضرورة استحداث أيقونة «ق. هـ»، ترقيمًا وتقويمًا زمنيًا منضبطًا وموثقًا للأحداث التاريخية المهمة التي وقعت قبل الهجرة النبوية، أسوة بالتاريخ الميلادي الذي اصطلح «ق. م» دالة على ما حدث قبل ميلاد المسيح، عليه السلام.
وكل عام وأنتم بخير.
أخبار ذات صلة
قدمنا لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى هذا المقال : الهجرة.. رحلة البحث عن معنى جديد - بوابة الكويت, اليوم الاثنين 30 يونيو 2025 12:22 صباحاً
0 تعليق