رسالة البابا فرنسيس إلى الشعراء: "أنتم العيون التي ترى وتحلم" - بوابة الكويت

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
رسالة البابا فرنسيس إلى الشعراء: "أنتم العيون التي ترى وتحلم" - بوابة الكويت, اليوم الجمعة 27 يونيو 2025 04:39 مساءً

بوابة الكويت - سبق لي أن قدّمت عرضاً لكتيّب طريف ومثير في نوعه للبابا فرنسيس بعنوان "رسالة عن دور الأدب في التكوين" صدر بترجمة البروفيسور في "الكوليج دو فرانس" وليام ماركس وتقديمه، ("منشورات إكواتور" 2024). أظهر هذا الإصدار الجانب الخلفي لشخصية البابا الراحل الذي عمل في شبابه مدرّساً للأدب في إحدى ثانويات بلاده قبل التحاقه بالسلك الكنسي، وتعرّفنا معه إلى الأهمّية والقيمة اللتين أولاهما لقراءة الأعمال الأدبية: الشعر والرواية، وحضّ رجال الدين على القراءة لتغذية أرواحهم، وفهم الكتاب المقدّس، والتكفل برسالة الهدى والصلاح ناظراً إلى الأدب سبيلاً للخلاص.

في 27 أيار/ مايو 2023، استقبل البابا فرنسيس في الفاتيكان جمعيةً للشعراء والكتّاب وكتّاب السيناريو. وهي المناسبة التي أظهرت اهتمامه وشغفه الكبيرين بالأدب، وأرادها كما سجل المحفل البابوي احتفالاً بسلطة الكلمات في مواجهة لغز الحياة البشرية. فكانت خطبته في مجمع الأدباء التي دوِّنت لاحقاً في نصٍّ، ونشر أخيراً بالفرنسية (في نهاية نيسان/ أبريل بعدد خاص من الأسبوعية الرصينة LE UN HEBDO) هي ما أترجم لكم، سأترك لكم الإفادة والاستمتاع بهذا النصّ الفريد، يحبّب لك الأدب والدين ويسمو بهما عالياً.

"طيلة حياتي أحببت عديدَ الكتاب والشعراء، وخاصّة دانتي، ودوستويفسكي، وآخرين. أعانتني كلمات الكتاب على الفهم، فهمِ العالم، وفهمِ شعبي، وكذلك جسّ قلب الناس، وتعميقِ طريق إيماني، بل ورسالتي الكنسية وأنا في هذا الكرسيّ البابوي. ذلك أن كلماتِ الأدب هي مثل شوكة في القلب، تدفعك إلى التفكير وتضعك على الطريق. إن الشعر مفتوح، ينقلك إلى جهات أخرى. وفي ضوء تجربة شخصية، أريد أن أتقاسم معكم بعض الأفكار حول مهمتي.

أول ما أريد قوله هو: إنكم أنتم العيون التي ترى وتحلُم. إن شخصاً فقد القدرة على الحلم يفتقر إلى الشعر، والحياةُ من دون الشعر ليست على ما يُرام. نحن البشرَ نطمح إلى عالم جديد ربما لن نراه أبداً بأعيننا، ومع ذلك نرغب فيه، ونبحث عنه، ونحلُم به. يقول كاتبٌ من قارة أميركا الجنوبية: لنا عينان، واحدة من لحم، والثانية من زجاج. بالأولى نرى ما ننظر إليه. وبالعين الزجاجية، نرى ما نحلم به. يا لتعاستنا إن توقفنا عن الحلم؛ الويل لنا!

الفنان هو كائنٌ، بعينيه يرى ويحلم في آن واحد. إنه يدرك بعمق أكبر، يتنبأ ويظهر طريقة مغايرة للنظر، ولفهم الأشياء التي تتبدى لنا. أجل، الشعر لا يتحدث عن الواقع بمبادئَ مجرّدة، ولكن بالاستماع إليه نفسه، إلى العمل، الحبّ، الموت، ولكلّ الأشياء الصغيرة التي تملأ الحياة. هنا أستشهد ببول كلوديل [شاعر ومسرحي فرنسي 1868ـ1955] في قوله: هي "العين تسمع". إن الفن ترياقٌ لذهنية الحساب والنمطية؛ إنه التحدّي لخيالنا ولطريقتنا في النظر وفهمنا للأشياء. وبهذا المعنى، فإن الإنجيلَ بذاته تحدٍّ فنّي. إنه حاملٌ لهذه الطاقة "الثورية" التي تعرفون جيداً وتعبّرون عنها بعبقريتكم بكلمات تحتج، تؤوّل، وتصرخ. الكنيسة أيضاً في حاجة إلى نبوغكم لأنها تطلب الاحتجاج، وأن تنادي، وتصرخ.

 

البابا فرنسيس. (أ ف ب)

 

الأمر الثاني الذي أريد قوله، هو: إنكم صوتُ القلق والهموم البشرية. كثيراً ما تبقى هذه الوساوس دفينةً في قعر قلوبنا. وتعرفون جيداً أن الإلهام الفنيَّ ليس مريحاً فحسب، بل مبعث اضطراب، ذلك أنه يقدّم في آن واحد أجملَ حقائق الحياة ووقائعها الأشدّ تراجيدية. إن الفن حقل خصب يتم فيه التعبير عن "المتعارضات القطبية" للواقع كما سمّاها اللاهوتي رومانو غوارديني [1885ـ1968] تتطلب لغةً خلّاقةً ومرنة، قادرة على تبليغ الرسائل والرؤى القوية. وكمثال، أجدني أفكر في هذا المشهد في "الإخوة كرامازوف" [رواية دستويفسكي 1880] حين يروي الكاتب قصة طفل، ابن فلاح مستخدَم يرمي حجراً فيصيب أحد كلاب سيّده، فيردّ السيد بإطلاق الكلاب على الطفل. يجري هذا محاولاً الهرب من هجومها لكنها تتمكن منه وتنهشه تحت أنظار السيد الجنرال والعينين المستسلمتين لأمّه. إن لهذا المشهد سلطةً فنّيةً وسياسيةً هائلة: فهي تتكلم عن واقع أمس واليوم، عن الحروب والصراعات الاجتماعية، كذلك عن أنانيّاتنا، ولا أحيل في هذا المشهد إلى النقد الاجتماعي وحده. إنني أتحدث عن توترات الروح، عن تعقيد القرارات، وعن الطبيعة المتناقضة للوجود. هناك ظروفٌ في الحياة لا نستطيع، أحياناً، فهمها، أو لا نجد الكلمات المناسبة لها: هنا يوجد الحقل الخصب لعملكم، وهو أيضاً وكثيراً ما نلتقي فيه بالله. هي تجربة تفيض، لا نستطيع احتواءها. نحس بها وتتجاوزنا، مثل حوض يمتلئ بالماء من دون انقطاع إلى أن يفيض.

هذا ما أريد أن أطلبه منكم اليوم، أيضاً: تجاوزوا الحدود المغلقة والمرسومة. كونوا خلّاقين، من دون أن تدجِّنوا أبداً وساوسكم ولا هموم الإنسانية. أخاف مسلسل التطويع هذا لأنه يخنق الإبداع، ويكبت الشعر. جمِّعوا بكلمات الشعر الرغبات المضطربة التي تسكن قلب الإنسان، حتى لا تبرد، ولكيلا تنطفئ. إن هذا العمل يسمح لفكر بأن يعمل، أن يبدعَ الانسجامَ وسط التوترات وتناقضات الحياة البشرية، وأن يرعى اشتعال نار الأهواء الجميلة، ويسهم في نموّ الجمال بكل أشكاله، الجمال الذي يجد تعبيره عبر غنى الفنون، تحديداً.

هذا هو عملكم باعتباركم شعراء: أن تحيوا وتعطوا الكلمات لكل ما تعيشه الخلائق، وتحسّ به، ما تحلم وتتألم، بخلق التناغم والجمال. هو عمل يمكن أن يعيننا، أيضاً، على فهم الله، "الشاعر" الأكبر للبشرية. هل ستتعرّضون للنقد؟ ليكن، فهذا جيد، تحمّلوا عبء النقد وتعلموا منه، لكن ابقوا دائماً وأبداً أصلاء وخلّاقين. لا تتوقفوا عن الافتتان بأنكم أحياء".

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق