نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"سنوات النّمش" تُحوِّل الروّاية وتحكُم على زمانها - بوابة الكويت, اليوم الأربعاء 25 يونيو 2025 12:53 مساءً
بوابة الكويت - أمضى الروائي المصري وحيد الطويلة عشرين عامًا ليصل إلى التجسيد السردي الناضج لـ"أطروحة" تخييلية بدأها مع "ألعاب الهوى" (2004) وطفقت تمشي بدأب وصبر على الدرب الوعر لإعادة كتابة الواقع والحياة حسب تصورٍ وهيكلة تناسبان موهبة وثقافة وتجربة، بلورها بتدرّج في "أحمر خفيف" (2008)، "باب الليل"، أتبعهما بتحوّل في "حذاء فلليني" (2016)، منه سيكون قد شحذ قلمه، ووطّن خياله، وتحسّس الأرضَ الأنسبَ لحرثه وزرعه، سنراها تثمر أولًا في "جنازة جديدة لعماد حمدي" من شخصيات المسجلين خطرًا، لتُخصب في "الحب بمن حضر" (2024) بين (موعود) و(بهجة)؛ وأجزم أن الأطروحة التخييلية بلغت عند الطويلة تركيبها، وآتت أُكلها في "رواية سنوات النمش" (المحرر، القاهرة، 2025) آخر إصداره.
هي ثمرةُ تأصيلٍ لخطٍّ جذورُه بعيدةُ الغرس، مع نصٍّ اتُُّفق عليه أولُ رواية عربية "زينب" (1913) لمحمد حسين هيكل (1888 - 1956) ووضع له مؤلفه عنوانًا فرعيًّا توضيحيًّا "مناظر وأخلاق ريفية" وصفًا لأجواء وسلوك شخصياته، استعاره من أبي الرواية الفرنسية الحديثة فلوبير (1821 - 1880) في "مدام بوفاري" (1857) كنّى عنها بـ"Mœurs de province" (عادات من الريف). القصد أن الرواية العربيةَ المصريةَ أو في مصر بدأت وانطلقت من وصف الريف، ومناخه الاجتماعي والاقتصادي والعاطفي، قبل أن يصعد خطُّها البياني نحو الولادة الشرعية التي حققها لها نجيب محفوظ (1911 - 2006) بثلاثيته الروائية الشهيرة.
ما يفعله وحيد الطويلة في "سنوات النمش" ليس العودة إلى النبع وحسب، الريف، بل تحويله بؤرةً مركزية، فضاءً روائيًا، ومجالًا لنسج العلاقات، وتركيب شبكة الحبكات، والمصائر التي تتعايش وتتصادم في محيط اجتماعي بحمولاتٍ غريزيةٍ وسيكولوجيةٍ وتراكماتٍ بيئيةٍ عتيقة. نحن الذين انبهرنا بقصص أمريكا الجنوبية التي وسم النقد الغربي اتجاهَها بالواقعية السحرية، انتبهنا متأخرين أنه يمكن العثور على الموضوع الروائي، وعالمِه، خارجَ المدينة، بعد أن أرساه المعلم نجيب محفوظ؛ أن في بيئتنا، طبيعتنا، وفي سِيَرنا الوطنية والشعبية والأسطورية "ماكوندو" أخرى كتلك التي عثر عليها، أو أنشأها الكولومبي ماركيز من بنات خياله في "مائة يوم من العزلة" (1967) وقبله خوان رولفو المكسيكي في النص المؤسس" بيدرو برامو" (1955)؛ وأقول وحيد الطويلة المصري يُخرجها من تضاريس البنيات الراقدة والمعتّقة طبقةً أنتربولوجيةً، يكفي لموهبة وخزان ذاكرة، وبمهارة حفّار، وفطرةِ فنان، وبراءةِ طفل ريفي أن ينبِش ويكشف الأستار خارجَها وما في النفوس، فيُنتج البراديغم العربي المغاير لسرد الحاضرة. سيقال إن الريفَ موجودٌ نابضٌ في عديد أعمال أبكرُها "دعاء الكروان"(1934) لطه حسين، وأن النبش في طياته وبطولة أناسه المحرومين والهامشيين تيمةٌ أساسٌ في الرواية المصرية (عند يوسف إدريس، ويوسف القعيد، وخيري شلبي، على سبيل المثال)، إلا أن الطويلة هو من سينبري يؤهّلها إجناسيًّا بمكوّن الحكاية الشعبية، بنيةً سرديةً وأنتربولوجيةً وعالمًا مستقلًا.
الروائي المصري وحيد الطويلة.
تعال معي إلى الشرح وبعض التفاصيل. المكان، مُعّين وعامٌّ (تجريد): بلا اسم، لتدل عليه صفاتُه: "أبعدُ قرية من شمال مصر المدفون، حيث عدد الذئاب ينافس عدد البشر (...) في قلب البراري بل في القطعة التائهة أو المنسية منها، حيث الناس أغلبُ من الغُلب، يعيشون في نهار قصير، وليل يسرح فيه اللصوص وأبناء الحرام والثعالب"(9ـ10). الزمن غير معلن بدقة، يمتد من الحرب العالمية الثانية إلى نهايات العهد الناصري، ويتبأّر في طفل بعمر أربع سنوات، سيتكفل بوظيفة السارد العليم إلى حدود زمن المراهقة بين 15 و16 عامًا (حسب استقرائي، ليس لهذا أهمية) لا تُحدث الصيرورة الزمنية أيّ تأثير على الذهنيات والسلوك ونمش القرية. النّمش علامةٌ ماديةٌ على جسد الطفل وُلد بها سِمةَ اختلاف تميّزه عن سكان القرية والنجوع، هم سُمرٌ خلا بيضٍ مهجّنين يغمز السارد من أصلهم بتأثير أجانب مروا "نطة فرنساوي".
هي قرية معزولةٌ جغرافيًّا، مُنشئها الروائي يحتاج إلى هذا العزل ليشرِّحها في غرفة عملياته أعضاءَ خارجية وأحشاءً، والذين يذهبون إلى البندر ينفصلون عنها مؤقتًا ويغلُب الطبعُ التطبّع. الكوبري في أطرافها صورةٌ ورمز الفصل. نتعرف عليها سطحًا أفقيّا ببيوتها وحقولها وجلسات أهلها وغرف نسائها؛ وداخليًا عموديًّا بما تعجُّ به من أسرار، بالليل خاصة أكثر من النهار، وكيف يتصدّر النمش المشهدَ، المجالَ، يحوز البطولةَ، لا النُّقَيطات والبقعِ الصغيرة على الوجه والجلد وحده، بل امتداده بالتحولات والأفعال الشائنة الملازمة لبشر القرية أو الفئة المتنفذة فيها بغلبة القوة والسرقات وتعدِّي السطوة الرجولية الغاصبة لحقوق النساء والضعيف المقهور. النمشُ علامةٌ في جسد، وسيمياءُ جناية في بيئة، بذا هو شكلٌ ومجاز، مسخٌ كافكاوي مصري.
لا توجد الرواية بالتجريد، ولكن بالتمثيل والتشخيص، فعمَد الطويلة، خبيرٌ فيها بزادٍ واعتماد، إلى تجسيد المعاني والصفات المذكورة، أخلاق القرية، وعناصر البنية الأنتربولوجية، في مجموعة شخصيات لكل منها حكايتُها المفردةُ المتخللةُ للنسيج الجمعي فاعلةً ومميزةً ومتأثرة، تبرز في البداية بطولةً فرديةً، لأن البطولة في الرواية دائمًا فرديةٌ ومهمازُ هذا الجنس الأدبي، لتَجنحَ في الوقت إلى الانزياح الحكائي عندما تنهج طريقتَه وترتدي لبوسَه، وساردُها حكواتي. لا تنقصُه إلا الربابةُ ليُحوّل سِيَر فضائح القرية إلى قصص شعبيةٍ حسب تقليد السيرة الشعبية. هم ثلاث وثلاثون بطلًا في رواية من 33 قصة / حكاية، تتكامل وبحركة دائرية تصنع رواية. أكثرُهم رجالٌ، وأغلبهم لصوصٌ مكارية سلاحُهم النبّوت، لا يفرّقون بين الحلال والحرام، وينهبون حقوق بعضهم كأنها البدايات الأولى لبشرية الغاب، أكثرُهم عبيدُ غرائزهم، الرجالُ والنساءُ على السواء وإن الأخيرات مضطهدات. محصنون ضد التغيير يستفيدون من تغيرات الخارج(مكاسب الثورة) ويدجّنون الداخلين. إنها إذن بطولةُ المكان ينتصرعلى جميع البطولات الفردية التي يسترسل طفل النمش في سرد مغامراتها تنتهي إلى الهزيمة، والغلبةُ لديمومة البنية في المضمون والمعنى والمخيال والقِيَم، وكذلك بإعادة الروايةِ إلى أصولها الأولى (الحكاية) إن ملقحة بالجنس الأدبي الجديد. جنسٌ بين شكلين، وشعب بين تاريخين وثقافتين. لا أملك في الأخير إلا أن أرى هنا حكمًا صارمًا على زمان وشعب وثقافة بأكملها، وهذه رؤية عالم الرواية.
0 تعليق